في مختلف أنواع النصوص ومجالاتها، وأغراضها، تشبه العلاقة بين النص ومناسبته تلك العلاقة بين الإنسان وبني جنسه؛ فالإنسان بطبيعته التواصلية، وبصفته الاجتماعية، هو كائن اجتماعي، تتنوع علاقاته مع الآخرين بحسب صلته بهم، أو تواصله معهم، فهناك علاقة مع الأقرباء، وهي علاقة تخضع لدرجات القرب، ومستويات المكانة، ودرجات المنزلة، كعلاقة الأبوة، والأمومة، والزوجية، والبنوة، والأخوة، والعمومة، والخؤولة، ونحو ذلك مما ينجر عنها، ثم تأتي علاقات الحياة العامة، كعلاقة الصداقة، والزمالة، والعمل، والجوار، وما قد يندرج في سننها من العلاقات الأخرى التي تظل مرتبطة بالإنسان ذاته، ومتعلقة بمن يتواصل معهم، هذه العلاقة قد تكون صافية، جميلة، تخلو مما يعكّرها، أو ينغّصها، وقد يشوبها بعض الكدر، ويعتريها شيء من الزلل أو الخطل.
وكذا النص أيا كانت مساربه ومشاربه فهو لا يخرج إلا من خلال مناسبة، ولا ينبع إلا من موقف، حتى وإن كان النص لافتةً، أو شعاراً، أو تقريراً، أو وثيقةً، فهو إنما كُتِب من أجل غاية معينة، ولتحقيق هدف منشود، وغرض مقصود، وهو ما يمكن أن نطلق عليه (المناسبة)، أو (مناسبة النص)، فاللوحات الإرشادية في الطريق - على سبيل المثال - لها مناسبة؛ إذ وُضِعت بعد حاجة الناس إليها، ورغبتهم في الاسترشاد بها، وكذا الحال في شأن كل نص أيا كان جنسه الكتابي، بل إن حديث الشخص يضم بين جنبيه مناسبة، فلا يخرج للآخرين إلا بعد موقف يبعثه، أو أثر يحركه، أو أمر يطلقه، أو شيء يدفعه؛ ليحقق بذلك غاية وهدفاً.
هذه العلاقة بين النص ومناسبته تجعلنا أحياناً نشبهها بتلك العلاقة بين السيارة ومحركها، فالمناسبة تشبه (الاشتعال) الذي يحدث بينهما، فالسيارة مثلاً لا تتحرك إلا بعد حدوث ذلك الاشتعال الذي يحركها بسبب أو غرض، ولكي تصل إلى هدف أو غاية، بعيداً عن الغاية الرئيسة التي هي النقل، وكذا النص فإنه لا يخرج إلا لسبب أو غرض، ولكي يصل إلى هدف أو غاية، وعندئذ تنشأ علاقة بين هذا النص ومناسبته، هذه العلاقة قد تكون منسجمة متوافقة، وقد تكون مضطربة متهالكة، وقد تكون واضحة قريبة، وقد تكون غامضة بعيدة، وكلما كانت العلاقة أكثر انسيابًا، وقبولاً، وتواشجاً، ووضوحاً، انقلب ذلك التناسب في صالح العملية التواصلية، وانعكس على تعاضد أركان التواصل: النص، ومُنشِئه، ومتقبله، وسياقه.
ولئن كان لكل نص مناسبته، فإن النص الإبداعي الأدبي تحديداً هو النص الذي تتجلى فيه قيمة المناسبات بشكل أكثر ظهوراً وأهمية؛ ذلك أنه يتسم بحكائيته أحياناً، وسرديته أحياناً أخر، ولو عدنا مثلاً إلى الشعر العربي القديم، ولا سيما المعلقات، لوجدنا بعض مناسبات القصائد فيها هي قصيدة في حد ذاتها، وربما فاقت المناسبة النص في بعض القصائد، كما في قصص المعلقات، كمعلقة امرئ القيس، ومعلقة طرفة بن العبد، ومعلقة زهير بن أبي سلمى، وغيرها، وعلى عكس ذلك، كم فاقت قصائد جرير، والفرزدق، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، كثيراً من مناسباتها، وكذا الحال في النثر، في الرسائل، والخطب، والأمثال، ونحوها، فالمناسبة قد تكون أجمل من النص، وقد يحدث العكس، فيفوق النص مناسبته، لكن المناسبة أجمل ما تكون حين تتفق مع بهاء النص، فتكون المناسَبة مناسِبة للنص، حينئذ يصبح المخاطب أكثر قبولاً واقتناعاً، ويكون النص أكثر بقاءً وخلوداً.




http://www.alriyadh.com/1985484]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]