يقول عالم اللغة الألماني ماكس موللر المتوفّى في عام 1900م:
«حينما يتعلق الأمر بابتكار علم جديد، فإن الحاجة إلى خيال الشاعر تكون أشد ضرورة...»

وسط انشغال العالم بالمال والشأن الاقتصادي، وتكثيف الواقع، وإحالة الخيال للرفاهية، والشعر للتملّق والكذب، كانت موافقة مجلس الوزراء على تسمية عام 2023م بـ»عام الشعر العربي»، احتفاءً رسميّاً بالقيمة المحورية للشعر في الثقافة العربية، على امتداد تاريخ العرب، وانطلاقاً من تأثير الجزيرة العربية التي كانت وما تزال موطناً للشعر والشعراء، ومصدراً لروائع أدبية ذات موقع راسخ في الحضارة الإنسانية، هذا الإقرار الرسمي بدا لي وكأنه إعادة الشاعر من منفاه، بعد أن تغرّب في الأرض، وتكبّبت أيامه، وهمّشه الضوء، وزهدت فيه المعرفة، والحقيقة أن هذا القرار الرسمي الواعي والمؤثر جداً في تاريخ الشعر في بلادنا، جاء بمثابة استدراك الشاعر الذي تاه بغربته، لتتم إعادته منها واحتواؤه وتقديره من أعلى الهرم، وبالتالي تجاوزت تسمية هذا العام بعام الشعر التأثير الثقافي النوعي المتوقع لمثل هذا القرار، لتصل إلى الشاعر الذي بدا وكأنّ هذه التسمية إحياء له من جديد بعد أن دهسته العاديّة، وغيبته تفاهات المشاهير وبائعي اللحظة.. ولأنه الشاعر الذي ينسج عالمه الخاص، ويخصب خيالاته الابتكارية بمنأى عن وصاية المال، أو حتى مراعاة مقتضياته.. يظل كائنًا غير مرضيٍّ عنه.. حتى الفلاسفة القدماء أخرجوه من مدينتهم الفاضلة بحجة تزوير الحقيقة.. لكنهم آخر الأمر اتحدوا معه حتى لم نعد نعرف اليوم أيهم الشاعر وأيهم الفيلسوف!، كذلك رجال الدين حين اصطدموا به نبذوه، وزندقوه، وفسّقوه وأقاموا عليه حدّ «الفهم».. لكنهم عادوا إليه دائماً تأريخًا أو تجييشًا، وبدا في بعض الأحيان أن حرمة الشعر تجاوزت.. حتى الزمن واللحظة، حيث وقف كلٌّ من حسان بن ثابت وكعب بن زهير وتغزلا بالخمر بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن حينها إلا مؤمناً بأن للشعر حقيقته وهويّته وعالمه ونسيجه الخاص.. هكذا إذًا يشكل الشاعر تهديدًا وجوديّاً لمن حوله، بعد أن يقتاتوا حتى على فتات ذنوبه وأخطائه، فالناقد والفيلسوف ورجل الدين يقضي كل منهم سنيناً مديدة في بناء وتشييد نظريته، ثم يأتي الشاعر بمطرقة رؤاه ووحي نبؤاته وتفرّد مخيّلته، ليكسر كل ما بناه هذا أو ذاك.
ولأنه الشاعر، سيناضلُ الجميع به ضدّه، وسيحيا دائماً صراعات وجود هي من طبيعة الشعر بشكل عام، ووسط كل هذا الضجيج به عليه، سيظل الشعر رافضاً للحقائق القبْلية لينتج حقيقته الخاصة، أو حتى نظريته المتجددة حين يتطوّر عليها بين حينٍ وآخر.. إن الشعر كما يُقال تعبير غير عادي عن عالم عادي، لهذا لن يكون يومًا فعلاً معطًى مسبقًا كما هي الظواهر الطبيعية ولا يخضع لحتميّات بيولوجية يمكن إسقاطها عليه.. الشعر رحلة لا تبدأ ولا تنتهي نحو الجوهر الإنساني المشع والحارق.. رحلة لا يشرع فيها إلا من نذر روحه بخورًا بملامسته.. ومن يفعل كل هذا لن يلتفت لنظريات أو محاذير أقل بكثير من انتشار روحه بخورًا في كل الأزمنة والحضارات، ومن أجل هذه الحقيقة الراسخة والوعي بها جاء هذا القرار بالتسمية، ليستيقظ الشعراء مع أول يوم من الشهر الثاني من هذا العام، على حقيقة هذه الرعاية وهذا الاحتواء، واللفتة النوعية، أدام الله لبلادنا هذا الأفق التنويري المتكامل من قبل قادتها، فكل شجرة تنمو في هذه الأرض المباركة ستكتظ بعصافير الشعر التي تغرّد أمنا وتنشر سلاما، وتثق أنها ستحلق بمنأى عن عيون الصيادين أو حتى المبشرين بهجرتها الطويلة، وغربتها المفجعة...
فاصلة:
من أين للأشجارِ ذاكرةٌ..
إذا حلّ الربيع على بساتينِ الحنينِ بآخر الذكرى؟!
ومن غيري رأى في رقصةِ
الأغصان ما يغني عن الأدْنى
يا أيّها الأبديّ نسيانًا..
ألا يكفيك أنّكَ ما استعطتَ
من الرجوعِ مؤبّدَ المعنى
قد لا تحالفكَ الطريقُ
وقد تمرُّ ببابها لغةً
من الأسماء والأفعالِ والجمل المفيدةْ
قد لا تحالفك القصيدة!




http://www.alriyadh.com/1995831]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]