ما إن تخترق شارع "برودويك" وسط حي "سوهو" اللندني، حتى تصادف مضخة ماء عتيقة على جانب الرصيف! ليس قِدمهما ما يثير الاهتمام؛ بل كونها بلا ذراع ضخ!
يُسجل التاريخ لهذه المضخة دوراً محورياً ليس في القضاء على وباء الكوليرا، الذي ضرب مدينة الضباب منتصف القرن التاسع عشر مرات عديدة، بل حتى في بناء أساسات علم الأوبئة، وما تفرع عنه من نظريات وتطبيقات حمت ملايين البشر من الأمراض المعدية والأوبئة.
كان نظام الصرف الصحي في لندن بدائياً، إذ كانت المياه المستعملة والفضلات تلقى في الآبار المفتوحة، وأيضاً في نهر التايمز، الذي كانت بعض الشركات تُعلب مياهه وتبيعها! مما أدى إلى تتابع موجاتٍ الكوليرا، وتسببت بوفاة عشرات الآلاف، قبل أن يتمكن الطبيب "جون سنو" من فتح الطريق نحو وضع حدٍ لهذا الوباء الفتاك!
في تلك الأثناء تبنى الوسط العلمي نظرية "ميازما"، التي تلقي باللوم على الهواء الفاسد، الذي ينتشر عند اختلاط الهواء بالجزئيات والمواد المنبثقة من تحلل المواد العضوية، غير أن "جون سنو" كان له رأيٌ أخر، فالجميع يتعرض للهواء الملوث لكنهم لا يصابون جميعاً، فهذا يعني أن مصدر العدوى شيء آخر، فاتجه إلى حي "سوهو" الفقير -حينئذ- حيث تركزت النسبة الساحقة من حالات وفيات الكوليرا.
في يوم واحد سجل الحي 127 وفاة، ثم بعد أربعة أيام قفز الرقم ليبلغ 500 وفاة! أجرى "سنو" تحقيقاً ميدانياً حول الوفيات، عبر جمع شهادات سكان الحي حول تفاصيل يومهم، وكان يعتقد أن المادة الملوثة موجودة في المياه، ثم لاحظ أن أغلب حالات الضحايا وجدت بالقرب من مضخة مياه شارع برود!
تتبع السجلات فوجد الكثير من الضحايا سبق أن شربوا من المضخة، رسم خريطة كاملة للمنطقة، ووضع عليها علامات تُحدد موقع المرضى والموتى لدعم نتائجه، وهي ما شكلت لاحقاً أحد أهم أسس "علم الأوبئة"، أيضاً صمم جدولاً إحصائياً عرف لاحقاً بجدول الطوارئ، ومن خلاله قارن أرقام الوفيات بين الشركات التي توفر المياه في لندن، ووجد أن الخطر النسبي في الشركة التي توفر المياه في "سوهو" أعلى بست مرات من الشركات الأخرى! طالب "سنو" بوقف استخدام المضخة، لكن السلطات المحلية رفضت ذلك، لكنها رضخت مع تزايد الوفيات، فأزالت مقبض المضخة، والعجيب أن حدة الوباء تراجعت في المنطقة المحيطة بعد توقف المضخة!
استطاع "سنو" إثبات مصدر التلوث لكنه لم يحدد الجرثومة، لكن استناداً على أبحاثه استطاع "روبرت كوخ" -بعد نحو خمسة وعشرين عاماً- عزل بكتريا الكوليرا، وأثبت مجدداً أن البكتريا الملوثة للماء هي سبب الإصابة بالكوليرا.
لا تزال المضخة بلا ذراعها شاهداً على أن جمع المعلومات وتحليلها بشكل علمي يؤدى إلى اتخاذ قرار صحيح، ويؤسس لمنهجية تضمن مستقبلاً أفضل.




http://www.alriyadh.com/2004439]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]