التصعيد التاريخي لأزمات المنطقة، وتنقلها من أزمة إلى أخرى أصبح بحاجة إلى لاعب سياسي يمتلك التأثير الفعلي على الخارطة السياسية، وليس هناك اليوم أكثر تأهيلاً من السعودية للقيام بهذا الدور..
قبل سنوات قليلة من الآن كان العالم ينظر إلى المنطقة العربية بشكل تقليدي مكثف نظرياً، فقد كانت الرهانات تدور حول فكرة أن المنطقة أصبحت عبئاً استراتيجيا دوليا الكل يريد التخلص منه ومن مشكلاته أو تسليمه إلى جهة أخرى، ففي أميركا وأوروبا خلصت الرؤية السياسية إلى أن إسرائيل يمكنها تحمل الأزمات الجيوسياسية والاستراتيجية في المنطقة، ولكن بشروط منها الدعم عبر مشروعات التطبيع الهادفة إلى كسر الحدود الدينية والاقتصادية والسياسية بين شعوب المنطقة بفكرة التقارب عبر مشروع (الاتفاقات الإبراهيمية) التي كانت مفتاحا مهما استخدم من أجل تبرير الخطاب الأميركي المتكرر حول الانسحاب من الشرق الأوسط وترك هذه المنطقة الغارقة بالتنافس بين دولها كي يحلوا مشكلاتهم.
عندما ظهرت الاتفاقات الإبراهيمية إلى العلن بدا أنها تريد استبدال القيم السياسية الدولية المتعمدة للمنطقة العربية بقيم إقليمية مختلفة، يتم عبرها دفع دول المنطقة لتحمل مشكلاتها الاستراتيجية، ولكن المتغير الجديد هنا هو محاولة دمج إسرائيل في المنطقة بطريقة مختلفة يتم من خلالها محاولة تجاوز فكرة الصراع على الأرض، إلى فكرة التقارب بين أديان الشرق الأوسط، ليكون ذلك بحسب فلسفة الاتفاقات الإبراهيمية من أجل استتباب الأمن وتكريس السلام في المنطقة والعالم اعتماداً على التفاهم المتبادل والتعايش بحسب بنود الاتفاقية.
اندفعت المنطقة بشكل متفاوت حول تقبل أو رفض فكرة الإبراهيمية، وكيف يمكن لهذه الصيغة الاستراتيجية أن تذهب بالمنطقة إلى شكل مختلف من الاستقرار دون حل للأزمة الفلسطينية، عبر محاولة إذابة مستحيلة لثلاثة أديان بقيت على مر التاريخ تدرك الحدود الرئيسة بينها، وتدرك استحالة الانصهار وفق هدف سياسي قصير المدى.
لقد كانت الإبراهيمية محاولة جادة للتضحية بكل أزمات المنطقة الفعلية، وكان السؤال: أين سوف تذهب القضية الفلسطينة؟ وما أهداف إسرائيل في المنطقة عندما يتم تبني فكرة الإبراهيمية؟ هل ستبني إسرائيل مساجد وكنائس في مدنها وتسمح بدفع الثمن لهذه الاتفاقية؟
عبر التاريخ اعتادت المنطقة من أميركا والغرب أنهما تتصرفان بشكل مباشر كفارضي توازن يأتي من وراء البحار للوصول في النهاية إلى تمرير المسؤولية إلى الآخرين، ويطرح هذه الفكرة الدكتور المتخصص في السياسة جون ميرشايمر، وهذا قد لا يتطلب الكثير من التفسيرات البنيوية لهذا الواقع، فما يراد للمنطقة هو أن تقع كلها تحت سيطرة وسيط واحد يتمتع بعلاقات متداخلة مع الغرب، وفي هذه الحالة ستكون الإجابة العفوية لدى الغرب هي إسرائيل التي تتمتع بكل الدعم، ولكن بعيدا عن حل القضية الفلسطينية التي تدرك المنطقة أن مخرجها الوحيد والمتفق عليه عربياً هو حل الدولتين تحت قيادة أكبر دول المنطقة "السعودية".
لم يحدث الكثير من المفاجآت المهمة في المنطقة بعد ظهور مشروع الاتفاقات الإبراهيمية إلا عندما ظهر الاتفاق السعودي - الإيراني برعاية صينية، فقد كانت المنطقة معتادة على المهدئات والمبادرات التي دائما ما يصعب المراهنة على نجاحها، ولعل السؤال الأهم يقول: ما الذي يتغير عندما تعلن السعودية وإيران اتفاقاً دبلوماسياً برعاية صينية؟ في الحقيقة إن فكرة الاتفاق السعودي - الإيراني تعيد رسم متغيرات المنطقة سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.
ظهور الصين دبلوماسيا في المنطقة بالتأكيد سوف يعيد فكرة تعريف القوى الدولية والنظام العالمي، وقبول السعودية وإيران لهذا الاتفاق وتنفيذه يحرر المنطقة بشكل أساسي من تصورات حالة المنطقة التقليدية، وخاصة تلك التصورات التي تروج لفكرة أن التنافس الخليجي - الإيراني صعب ومعقد ويتطلب مشاركة قوى إقليمية أخرى، ولكن ظهور هذا الاتفاق الإيراني - السعودي بهذه الصورة أثبت أن السياسة السعودية لديها القدرة على صياغة تصورات مختلفة للمنطقة وقيادتها بالإضافة إلى صناعة الاستقرار للمنطقة.
منطقتنا أمام تفاصيل مهمة من أجل إعادة ترتيب المعطيات الاستراتيجية والقوى الفاعلة، فالسعودية تقدم نفسها للعالم اليوم من خلال فكرة تقوم على التوازن الاستراتيجي الهادف إلى تأكيد مسار المصالح المشتركة والاستقرار الدائم، وهو الخط الأكثر تأهيلا للسياسة الإقليمية التي تحكم المنطقة، فالتصعيد التاريخي لأزمات المنطقة وتنقلها من أزمة إلى أخرى أصبح بحاجة إلى لاعب سياسي يمتلك التأثير الفعلي على الخارطة السياسية وليس هناك اليوم أكثر تأهيلاً من السعودية للقيام بهذا الدور.
فخلال السنوات الماضية وعبر تجربة تنموية سعودية مختلفة عن كل التجارب قدمت السعودية الحلول وفتحت المجالات لبناء شراكات فعلية لصالح المنطقة بأكملها، وهذا المسار الاستراتيجي هو في حقيقته انقلاب تاريخي على منهجية المنطقة التقلدية، ينبئ بظهور قيادة أكثر فاعلية في مسار تطوير المنطقة واستقرارها، لقد حان الوقت للمنطقة والعالم كي يدرك الجميع أن السياسة السعودية اليوم هي أكثر وعياً واستحقاقاً لقراءة الخارطة الاستراتيجية للمنطقة ومصالحها والتعامل معها.




http://www.alriyadh.com/2004584]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]