عندما كنا صغاراً كنا نردد ونحفظ قصائد مجنونة، تجمع بين الفلسفة واللغة الشعرية النخبوية كما كنت أحب أن أطلق عليها، منها على سبيل المثال قوله: "ثدي النملة يفرز حليبة، ويغسل الإسكندر، الفرس جهات أربع، ورغيف واحد، والطريق كالبيضة لا بداية له".
ذلك هو أدونيس "علي أحمد سعيد" شاغل الناس في العصر الحديث، الشاعر الفيلسوف الذي قرأنا له: بحثه في الإبداع والاتباع عند العرب: "الثابت والمتحول"، وهو كتاب من أربعة أجزاء صدرت الطبعة الأولى منه العام 1973 (بثلاثة أجزاء)، إلاّ أنّه ومع كلِّ صدور طبعة جديدة للكتاب، كان يُثير جدلاً واسعاً بين رفض ما جاء به، أو قبوله.
تتلمذنا على كثير من أفكاره، فعندما تقرأ ما يكتبه في رصده للشعر الجاهلي، أو تناوله لمفاصل من الشعر في صدر الإسلام تجده يريد أن يؤكد أن الإبداع يجب أن ينفك عن الاتباع ليكون إبداعاً خالصاً، فأنت عندما تكون ـ مقلداً ـ كما هو في الإطلاق الفقهي، حينها تكون متبعاً، ولست مبتدعاً، والإبداع لا يتأتى في هذه الظروف، فإذا لم تكن لديك الجسارة على أن تبتدع فإنك لن تبدع.
لذا نجد أن التحول هو سنة الحياة، ولا يمكن لنا أن نظل رهينة الثبات، وذلك ربما ما تبنته الحداثة، أو تبنت جزءاً منه في وقتها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، أرادت أن تتبنى فكراً يقول أن الحقيقة ليست ذات وجه واحد، وأنها نسبية، فما يمكن أن تراه أنت حقيقة، يختلف معك حوله الكثيرون في هذا العالم، وأنت كذلك قد لا ترى ما يراه الآخر حقيقة كذلك، وتختلف مع تلك الطروحات، لأن: "كل ما لا يمكن الإشارة إليه، أو يمكن أن يكون ضمن المحسوسات أو ما يمكن أن تشعر به" كل ما هو عدا ذلك يظل في نطاق الرأي، يعني وجهات نظر كما يقال، وهذا ما أرادت الحداثة أن تكسر به كثير من الأفكار الثابتة، لتدعونا إلى أهمية الحراك، عبر المتحول المتجدد في وجهات النظر المختلفة التي تدعو إلى التعايش مع ذلك الآخر وإن اختلف معي أيديولوجياً، وهو ما يمكن أن يجعلنا نعيش على مستوى العالم أجمع في ديمغرافية جديدة تجعلنا نتماهى مع الشعوب في كثير من الأمور، ولعله يحصل اليوم عبر ما نعيشه من انفجار تكنولوجي، وانفجار تواصلي عبر السوشل ميديا، وانفجار معرفي وعلمي، وتقني، وعبر ما يحدث من تطور مخيف للذكاء الصناعي الذي يفاجئنا كل يوم بجديدة الذي يذهلنا، ويجعلنا غير قادرين على التنبؤ بما يمكن أن يحدث غداً، هذا ما بدأت به الحداثة قبل أكثر من ثلاثة عقود، أنها أرادت أن تهيئ الشعوب لهذه المرحلة المهمة في حياتها.
ما دعاني وحفزني إلى كتابة هذا المقال هو الحضور البهي للشاعر والناقد والمفكر أدونيس الذي جاء إلى السعودية بدعوة من وزارة الثقافة السعودية، وبعد 40 عاماً من حوار دار بينه وبين الإعلامي محمد رضا نصر الله، ليعود مجدداً محاوراً له في مدينة الطائف وعلى مقربة من الموقعة التاريخية الشهيرة سوق عكاظ، لنشهد حدثاً ثقافياً متفرداً لفت أنظار العالم إلينا مجدداً، تحية تقدير لكل من ساهم في تنظيم هذه الفعالية المهمة.




http://www.alriyadh.com/2004808]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]