احترام النظام والخضوع لسيادته أهم ما تُبنى به دعائم القوة، وأنجع ما تُستبقى به إذا وُجدت بعد توفيق الله تعالى والاستعانة به، وهذا أمرٌ لا يتحقق السمع والطاعة إلا به، ولا يتصف الإنسان بأنه محترمٌ للنظام حريصٌ عليه إلا بمطابقة الظاهر فيه للباطن، وجعل ذلك ميثاقَ شرفٍ يستنكف من أن يخلَّ به..
لا بد لنيل معالي الأمور واستبقائها بعد حصولها من بذل الجهود والاستمرار فيها وتنويعها وتطويرها، ويتفاوت ما يجب بذله من الجهود بتفاوت المنافع المرادِ اجتلابُها أو المحافظةُ عليها، وأهم المنافع وأكثرها شمولية قوة الدولة بجميع مقوماتها؛ لأن مصالح الدارين متوقفة عليها، فلا يستقيم أمرُ معاشٍ ولا معادٍ بدونها، ولا يؤمن على نفسٍ ومالٍ وعرضٍ إلا في ظلها؛ ولهذا كانت أعزَّ موجودٍ إذا وُجدت، وأخطر مفقودٍ إذا فُقدت، وأصعب مسترجَعٍ إذا ذهبت، وإن مصلحة بهذه الصفة لجديرة بأن تتضافر الجهود لرعايتها، وأن تبقى ضروريتها ماثلة في الأذهان مقطوعاً بها، وأن لا يغفل الإنسان المنعم عليه بها عن الاعتراف بنعمة الله عليه وحمده عليها، وتعاطي أسباب استمرارها، وأن لا يخضعها للمقايضة بأي ثمنٍ، فلا يُقدم على المساس بمصالحها العامة المتقررة الثابت اعتبارها عقلاً وشرعاً لحساب مصالحه الخاصة التي شخّصتها له نظرةٌ ضيقةٌ قاصرةٌ؛ وأن يدرك أن مِلاكَ السعادة في الدارين مراغمة النفس على خلاف ما تميل إليه إذا عارضته المصلحة، ولي مع معالم القوة وقفات:
الأولى: أهم ما يُعينُ على القوة التمسك بمبدأ السمع والطاعة لولي أمر الدولة، والالتزام بتوجيهاته، والانقياد لنظامه ورصِّ الصف خلفه؛ ولهذا أولى الشرع الاجتماع من تأكيد الأهمية ما أولاه، فجعله واجباً يأثم كل من فرّط فيه أو أخلَّ به، وضرورة لا يُساوَمُ عليها، فرتب على لزوم الجماعة المدح، وعلى التَّفَلُّتِ منها الذم والعقوبة، فعَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ ضُرَيْحٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله تعالى عنه، قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَالَ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقُ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ» أخرجه بهذا اللفظ النسائي، وأصله في صحيح مسلم، ومما يُعاقب الله به البغاة الساعون في زعزعة صفوف المجتمع بغياً وعدواناً أنهم يصيرون تحت لواء مضلين ليست لهم أهدافٌ معروفةٌ، ولا نظامٌ متبعٌ، فيسومونهم من الهوان والتذليل ما لا مزيد عليه، فلا هم حافظوا على دينهم ونفوسهم وسائر مصالحهم الضرورية بالبقاء مع جماعة المسلمين، ولا هم سلكوا طريق الراحة والكرامة في الدنيا، فتحققت لهم خسارة الدنيا وخسارة الدين، وهذا أقسى الخسارات، وإنما تلحق المتذبذب الواقف على شفا جرفِ الشك والارتباك.
الثانية: احترام النظام والخضوع لسيادته أهم ما تُبنى به دعائم القوة، وأنجع ما تُستبقى به إذا وُجدت بعد توفيق الله تعالى والاستعانة به، وهذا أمرٌ لا يتحقق السمع والطاعة إلا به، ولا يتصف الإنسان بأنه محترمٌ للنظام حريصٌ عليه إلا بمطابقة الظاهر فيه للباطن، وجعل ذلك ميثاقَ شرفٍ يستنكف من أن يخلَّ به، ويستشعر أن إخلاله به وصمةُ عارٍ عليه، فيكون التزامه به نابعاً عن قناعة وأريحية، ولو فُرض أن الفرصة سنحت به فتمكن من إخفاء مخالفته النظام لم يُقدم على ذلك، وبهذا يؤتي النظام أعلى ثمراته الطيبة المباركة، أما الاكتفاء بعدم المعاندة الظاهرة مع الاستعداد لانتهاكه مهما أمكنه ذلك فهو منافٍ لواجب النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، فالتخفِّي في تحدي النظام خيانةٌ للأمة، وتترتب عليه آثارٌ وخيمةٌ لا تُخطئها العيون في البلاد التي استشرى فيها، لا سيما إذا كانت المخالفة في الأمور التي لها تأثيرٌ كبيرٌ في المساس بأمن الدولة واستقرارها وازدهارها، كالتنظيمات السرية، وتهريب الممنوعات والفساد والرشى ونحو ذلك من المخالفات التي تُعدُّ تقويضاً ممنهجاً لمستقبل الأمم.
الثالثة: يجب على المسلم أن يتخذ العدة والآليات التي تُمكِّنُهُ من الإسهام في قوة دولته وعدم عرقلته لتقدمها، ومن تلك الآليات استحضار ما تقدمت الإشارة إليه من أن هذا دينٌ سيحاسب على التفريط فيه، وشرفٌ إذا استهان به ندم يوماً ما، وأن يعلم يقيناً خطورة خضوعه لنزعات نفسه الجامحة إلى خرق النظام وتعاطي مخالفاته خصوصاً التي تمس مباشرة أمنه، وتلحق الضرر بوجهه الحضاري، فهو في كل مرةٍ يتخفَّى فيها ليخرق النظام إنما يحفر حفرةً في طريق مجتمعه، فهو كما قيل: "من حفر لأخيه بئراً وقع فيها" فهذه الحفرة لا ينجو حافرُها من أن يتردَّى فيها عاجلاً أم آجلاً، ومهما راوغ فمآله إلى قعرها، لأنه باغٍ بفعلته الشائنة، وبغي الإنسان سيرتدُّ في نحره لا محالة، قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)، فهو المضرور بلا شك، أما المجتمع فله وسائل لتفادي آثار هذه المكيدة بفضل الله تعالى ثم بجهود قادته ورجاله وأفراده المخلصين، وهم الأغلبية الفاعلة بحمد الله تعالى.




http://www.alriyadh.com/2013947]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]