كان للعرب القدامى سَبْقٌ في تناول الفكر بالنقد والتحليل والتنظير، بالإضافة إلى أن آراءهم النقدية تمتزج بآرائهم الفلسفية، فيستنبتون الرؤوس بنظريات تتناسب وواقعهم وبنياتهم المجتمعية والسياسة والنفسية أيضاً، والتي تشع بها أرجاء فكر وفلسفة الأدب المعاصر..
هل عهدنا جسدا بلا رأس؟ نعتقد أنه لو وجد ذلك لفر البشر منه فرار الخراف من الذئاب! أمر طبيعي وشديد الرعب لا يتوفر سوى في أفلام الرعب والتي يتم التنبيه قبلها أن نبعد أطفالنا قبل عرضها. وعليه فإن الدنيا كلها تزخم بالرؤوس السابحة على أكتافها وهذا أمر طبيعي فطرة الله وخلقه.
هذه الرؤوس المتدحرجة على أكتافها بفرية بالغة، تحتاج في الوقت نفسه إلى استنبات، فصناعة الرؤوس أمر بالغ الأهمية وشديد الصعوبة، يحتاج إلى استراتيجية الدولة نفسها في شكل يمكن أن نطلق عليه صناعة الرؤوس المفكرة، وهو ما يحتمه علينا عصرنا هذا، الذي تأخذ فيه كل رأس شكلا ذو منحنى آخر ومعنى مختلف في خضم ما تموج به المعلومات والمعارف من أفكار تتجدد كل يوم، إذ أن لكل أمة جسد يحمل رؤوسا متعددة ومتنوعة تختلف باختلاف ما حوته من علم وأدب وهم جمعي وإرث. وبطبيعة الحال كان لزاما على كل أمة أن تستنبت رؤوسها في طينتها هي، إذ أنه إذا ما استنبتت خارجها ولم تزرع في طينتها التي هي لها ومنها قطعا سوف تتدحرج على الأكتاف لا محالة، فلكل أمة طينة لا تؤتى ثمارها إلا من امتداد جذورها التي هي بها، فمكوناتها هي من مكونات هذه الطينة كما أسماها الفارابي وابن رشد وابن سينا بهذا الاسم.
يقول الفيلسوف القديم ابن حيان وقبل أي نظريات علمية جديدة: إن غذاء الأغصان لا يتم إلا عن لحاء وخلايا الفروغ المتصلة بالجذور وهي دعوة إلى العودة للجذور والتي دعا لها (ت. إس. إليوت) في نظريته تلك لكن الأمر في هذه النظريات وتلك أخذ يتراوح بين جذب وشد بين المنظرين والمفكرين عن جدوى هذه الدعوات وتلك النظريات.
وفي خضم هذا التراوح والتبادل بين القبول والإنكار، نقول: لماذا لا يتم فرز الرؤوس اللاهثة للمعرفة عن جدية وإصرار وليس أولئك الساعين نحو الوجاهة والتحلي بالمناظر والمناظرة، وهذا الفرز يكون بالإبقاء على الثمين منها دون الغث، فالغث أصبح رائجا ووسائل التواصل الاجتماعي كشفت الرجال وفضحت الرؤوس المستديرة من المستطيلة الجوفاء، وهذا أصبح واضحا للعلن.
وهذا ما فعلته وزارة الثقافة مؤخرا، جادة في هذا الفرز مانحة كل السبل لمن أراد أن يتقدم للمفرزة، لكنها مفرزة صعبة لو علم الكثير عما يكتنفها من استراتيجية ومن جهد ومال ومثابرة، لكي تُستنبت العقول في طينتها دون اللجوء إلى البعثات وما إلى ذلك بإقامة الجامعات والأكاديميات السعودية ذات التخصصات المتنوعة، حرصا منها على الاستنبات في نفس الطينة المكونة للهوية ذاتها.
ليس رفضا أو نزوحا عن النظريات والعلوم العالمية على الإطلاق وإنما لتغذية الرؤوس على سوقها وفي نفس تربتها بكل آليات المعرفة محلية أو مستوفدة، رغبة في بناء جسر المعارف بين المملكة الوطن الأم وباقي جسور المعارف الأخرى وهو ما فعلته الثقافة الغربية وذلك سلفا، لأننا إذا أمعنا النظر طويلا فيما أفرزته النظريات المستوفدة التي أعدت في طينة مغايرة تحمل خطاب مغاير لطينتنا، بالرغم من أن أسس هذه النظريات هو نحن وثقافتنا، فـ"سانت بوف" و"برونتير" و"جورج لوكاكش" و"لوسيان جولدمان" وغيرهم من النقاد الحداثيين كان الجاحظ أولهم في نظرية "علمية النقد والتحليل" والتي ضجت بها ساحات الثقافة العالمية والعربية حتى يومنا هذا، فهو من أشار إلى أن النقد علما حيث جعل مرد استشهاد الناقد من الذاكرة، وجعل النقد يرجع إلى ثقافة الناقد واتساع معارفه، وكان يستخلص علوم النبات والحيوان وغير ذلك من العلوم من تحليل الأعمال الإبداعية، كما أن الفلاسفة المسلمين جعلوا النقد يُخضع ذلك للتجربة والبرهان المنطقي. والجاحظ استغل الشعر مصدرا لمعارفه العامة إذ استمد منه تصور للخطابة وبعض معلوماته عن الحيوان بل جاء بأشعار وشرحها لأن شرحها يعينه على استخراج ما فيها من معرفة علمية، وهو إذا ما روى الشعر بمعزل عن الاستشهاد فإنما يرده للذاكرة كغيره من نقاد عصره. ومرد هذا إلى طبيعته الذاتية وملكاته وسعة ثقافته وهو ما اعتمدت علية النظريات الحديثة سالفة الذكر. هذا الهجين المعرفي الإنساني هو مزرعة الرؤوس النابغة لكل دولة تنشد صناعة مفكرين وعلماء.
فكما أنه افترض أن قوة الغريزة هى التى تتفاوت بين العرقين وهي ذلك المبدأ الذي استند إليه تايللور ودوني كوش والذي أحدث ثورة في التحليل الاجتماعي ومن ثم الأدب والفن المعاصر. فالجاحظ يرى أن قوة الشعر لدى غير العربي قصيرة الرشا عن المولد. ومن هنا يعرف الشاعر وعرقة من بين أبياته دون اللجوء إلى هويته وذلك هو محور الارتكاز لدى تايللور.
فالنظريات النقدية العربية تزاحمت في الرؤوس الغربية حتى أزاحت كل أفكارنا وأخذناها وكأننا لا نعرفها النقدية العربية القديمة ومبدعيها، فنجد باختين ولوكاكش ودريدا وفوكو وتايللور وجولدمان وغيرهم اتخذهم الفكر العربي الحديث مرجعا ومنهجا جديدا ولم يتبادر إلى أذهاننا أن بذورهم تمتد في أعماق النقد، الأمر الثاني هو: الاهتمام بالمبدعين الحق ووضعهم في الصدارة وتفية المواقع الثقافي من هؤلاء المدعين المتسلقين القائمة أفعالهم وتواجدهم على الشللية والعلاقات العامة وهو أهم من طرح الٌتنبات والتعب على شباب واعد قد يلقى بهم على قارعة الطريق إذا لم نتداك الأمر ونقضي على كثير من هذا الزيف.
فكيف نريد أن نصنع تاريخ الآداب العربية وما تزال شخصيات الكتاب والشعراء والعلماء مجهولة أو كالمجهولة، ولا نكاد نعرف منها إلا ما حفظه الأغاني وكتب المعاجم والطبقات.
إننا بحاجة إلى منظرين ونظريات وإلى مفكرين والساحة الآن لا تخلو منهم لكنهم ينتظرون خلو الساحة من كل زيف بات واضحا على الثقافة العربية كلها يبحثون عن تنقية واهتمام وهذا ما رصدناه في كواليسهم واستماعا لشكواهم.
نحتاج إلى نظرية عربية معاصرة تستنبت الرأس فى الجسد، فلقد كان للعرب القدامى سبق -كما أسلفنا- في تناول الفكر بالنقد والتحليل والتنظير بالإضافة إلى أن آراءهم النقدية تمتزج بآرائهم الفلسفية، فيستنبتون الرؤوس بنظريات تتناسب وواقعهم وبنياتهم المجتمعية والسياسة والنفسية أيضاً، والتي تشع بها أرجاء فكر وفلسفة الأدب المعاصر. لكنها اتسعت الفجوة الآن، وقد أعزى المحللون ذلك الخلل إلى أمور عدة منها اقتصادية وتقنية وتقدم في تقنيات السينما على المسرح العالمية والإعلام، إنما في حقيقة الأمر هو توفر تلك الطينة والرجوع إليها، فثقافة النزوح أصبحت بدورها مرضاً عضالاً ومعدياً يبعث على انفصام العرى وتدحرج الرؤوس في نهاية الأمر، لأن التربة المُنبِتَة لكلا الطرفين هي ذلك الحس المشترك. فالشارع ما هو إلا تلك المرآة المتسلطة على الفكر لتعكس ما فيه، إذ ليس ذنب المرآة أن يمر أمامها أشخاص يثيرون الاشمئزاز فهي لا تدافع عن أحد.




http://www.alriyadh.com/2014149]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]