نستغرب كيف لا تنهض الدول، ولا تتخذ من التعليم وسيلة للنهوض والرخاء، خصوصاً أن النماذج موجودة وواضحة، فالتعليم ليس به أسرار، بعكس بعض الأنشطة السرّية في العسكرية وغيرها، فالتعليم معلم وموجه، وطالب ومقرر وأنشطة وبيئة ومنزل، والنهوض به يتطلب النهوض بهذه الأعمدة..
مع القيادة الواعية الطموحة يستطيع أي شعب أن يحقق التميز والنجاح الباهر، خصوصاً حين يتخذ من التعليم وسيلة وأداة لتحقيق ذلك، فالتعليم الموجه بعناية هو القادر على تغيير عقليات وعادات وسلوك المجتمع وصحته. الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، وما يؤثر فيه هو التربية والتعليم. والتعليم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كل ما عندك، وزودته بكل ما يحتاج من بذل وعناية واهتمام. الشعب السنغافوري خير مثال على ذلك، وبصرف النظر عن مساحة البلد وعدد سكانه، فقد كان من الممكن أن يبقى في أسفل السلم من حيث التنمية والسلوك إلى وقتنا الحاضر. كان دخل الفرد في الستينات 400 دولار في السنة، ليقفز خلال ثلاثين عاماً إلى 40 ألف دولار في السنة. واليوم تنافس أفضل الدول في دخل الفرد وجودة الحياة. لم يكتشفوا خلال هذه الفترة مصادر دخل جديدة سوى الإنسان. فركزوا على تعليمه وتدريبه ليخرج أفضل ما في عقله وساعديه من قوة. كان سلوك الفرد في سنغافورة في الستينات مشيناً كما أشار إليه الرئيس "لي كوان يو" في مذكراته. شعب غير متعلم، يلوث المكان ويقتلع الأشجار من الشوارع. وحين بنت لهم الدولة مساكن جماعية أحضروا الخنازير معهم، حاولوا تربيتها في أسطح المنازل. وهي الدولة التي بكى رئيسها بعد استقلالها لأنه لا يوجد مياه شرب نظيفة. لكن الدولة كانت عازمة على رفع مستوى المعيشة وجودة الحياة لجميع المواطنين، وهكذا تحققت المعجزة على يد رئيس وزرائها "لي كوان يو" وحزبه الحاكم، وبفضل الاهتمام بالتعليم من الروضة حتى جامعاتها ومراكز أبحاثها.
فنلندا انتقلت من دولة تعد من أفقر دول أوروبا، تعتمد على قطع الأشجار وبيعها، إلى دولة حديثة تتبوأ المركز الأول في جودة الحياة على مستوى العالم. أدركت أن التعليم هو وسيلتها للنهوض بالفرد ليعطي أفضل ما لديه، وأدركت أن النهوض بالتعليم يتطلب النهوض بالمعلم تأهيلاً وتقديراً، وقبل ذلك حسن اختياره، وجعلت من مهنة التعليم رسالة سامية يتسابق الخريجون المتميزون للالتحاق بها، ليس لمردودها المادي، ولكن لما يكنه الشعب والمسؤولين والطلبة للمعلم من تقدير واحترام. ومثلهما اليابان التي بهرت العالم بسلوك شعبها وانضباطه. ولحقت بهم كوريا الجنوبية، وأصبحت بفضل التعليم الجيد قوية تغزو العالم بصناعاتها وفنونها وقوة اقتصادها. وكل دولة لم تعطِ التعليم حقه من الاهتمام تدهور اقتصادها، وتدهورت عملتها الوطنية، وتراكمت المشاكل الصحية والاجتماعية، وتكلست عقول أبنائها وارتخت سواعدها.
نستغرب كيف لا تنهض الدول، ولا تتخذ من التعليم وسيلة للنهوض والرخاء، خصوصاً أن النماذج موجودة وواضحة، فالتعليم ليس به أسرار، بعكس بعض الأنشطة السرّية في العسكرية وغيرها، فالتعليم معلم وموجه، وطالب ومقرر وأنشطة وبيئة ومنزل. والنهوض به يتطلب النهوض بهذه الأعمدة. وتكمن الصعوبة في تطوير التعليم بأنه لا يوجد طرق مختصرة لإصلاحه، بل إصلاحات مدروسة ومستمرة، وأخطرها وأصعبها تأهيل المعلم المناسب وتقديره ورفع روحه المعنوية. ومما يسهم في ذلك إيجاد البيئة المناسبة ليعطي أفضل ما عنده، ومنها وجود القيادة المدرسية الواعية بعظم رسالتها، والموجهون الذين يساعدون المعلم ويذللون ما يواجهه من مصاعب. ففي السابق كان المعلم يستخدم الشدة والعنف الجسدي واللفظي لفرض احترامه وهيبته، ومنها الضرب باليد والعصا. وهو ما زرع الخوف بين الطلبة، وكره المدرسة، وتركها في سنّ مبكرة. ومن هنا جاءت التعليمات المشددة بمنع الجزاءات البدنية واللفظية لتتماشى مع التربية الحديثة، لكن مقابل ذلك لم نوجد التوازن بين الأمس واليوم، فبعض الطلبة بحاجة إلى الحزم لحفظ هيبة المعلم وردع المشاغب كي لا يؤذي نفسه وزملاءه والمعلمين، كنت أتحدث مع طالب من قطر عربي يدرس في مدرسة ثانوية في أستراليا، يقول: في بلدي أمارس الكثير من المخالفات كالغياب والإهمال والمضاربات والتأخير عن الحضور للمدرسة، أما هنا فاحترام النظام والزملاء والمعلمين والحضور في الوقت المحدد هو المعمول به. يقول: تخاصمت مع زميل وسببت له جرحا بسيطا بالقلم، وهو ما استدعى الشرطة إلى المدرسة وبحضور ولي أمري، وأخذ التعهد علي بعدم التكرار، والطرد من المدرسة لو تكرر مني ذلك.
أفضل من يعرف ما يؤثر على أداء المعلم لرسالته السامية هم المعلمون المتميزون في الميدان، والذين أصبحوا خبراء في مجالهم لما أمضوه من سنوات طوال داخل المدارس، وتعاملوا مع الطلبة بسلوكهم وعاداتهم المختلفة. وماذا يصلح لكسب ثقتهم، وجعل التعليم مهمة ممتعة وناجحة. وهذا بحاجة إلى النزول إلى الميدان وإجراء الدراسات الميدانية التي يقوم بها خبراء مختصون، واستبانات صممت بطريقة علمية ومتوازنة ستبرز الكثير من الحلول التي قد لا نحسب لها حساب. وقد نظن أنها غير مهمة.




http://www.alriyadh.com/2014284]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]