عندما وُصف الإنسان بأنه "كائن اجتماعي"، كان ذلك تعبير مختصر عن كونه كائن قادر على "التواصل" مع الآخر أيّ كان نوعه أو لسانه أو طبعه. كان تعبير عن انتفاء سمة "الانعزالية" عنه وعن خصائصه.
بيد أن هذا "التواصل"، تطور بمرور الوقت حتى أمسى "فنًا" قائمًا بحد ذاته، يعكس مدى فاعلية المرء ودرجة تأثيره بل ونجاحه في حياته. ولعل إطلاق سمة "فن" على التواصل ليس به من المبالغة في شيء، لأن الناس تختلف طبائعهم، وتتباين أمزجتهم ما يجعل من القدرة على الاقتراب من الآخرين ومخالطتهم والنجاح في التفاعل مع هذا التنوع الهائل في الطباع أمرًا يتطلب مهارة عالية، وتمرّس عميق، لأن أهم ما يكمن في التواصل ليس تكوين العلاقات أو بناء الصداقات فحسب، بل الأهم كسب احترام الآخر وانتزاع تقديره، وتحويل التعامل معه إلى متعة حقيقية تمنح صاحبها درجة الرضا والثقة بالنفس.
صحيح أن الفطرة السليمة للإنسان ترفض الانطواء والانعزال عن الآخرين، لكنها بالمقابل تفرض على الإنسان ما هو أبعد من ذلك بأن يكون مؤثرًا وفاعلًا في مجتمعه، إيجابيًا ليس بسلبيٍ، مقبولًا وليس منبوذًا، وأن يسعى دومًا إلى بناء سمعة طيبة بسلوكياته تمنع تكوين أي صورة انطباعية سلبية مسبقة حياله، ولعل عليه أن يبقي السؤال التالي دائم نصب عينيه: كيف أحبّ أن أكون في أعين الآخرين؟ عندها فقط سيستشعر أهمية تطوير مهارات تواصله مع الآخرين سواء ممن هم في محيط أسرته أم عمله أم مجتمعه.
وعلى الرغم من أن عناصر المعادلة الاتصالية تتكون من مرسل ومستقبل ووسيلة ورسالة، إلا أن المُرسل يبقى هو الأساس في هذه المعادلة، لأن على عاتقه تقع مسؤولية اختيار الرسالة والوسيلة وعلى أسلوبه ومهارته ردة فعل المُستقبل.
ومهما بلغت ثقافته كمرسل أو علا شأنه فإن ذلك لن يمنحه تأشيرة عبور نحو الآخر ما لم يمتلك أدوات الاتصال السليم الذي يجعل منه جديرًا باختراق الآخر والاستحواذ على قبوله والتأثير فيه والاستجابة له.
ولعل بداية الحكاية في أي اتصال سواء كان شخصي أو مؤسسي أو اجتماعي أو حتى تربوي وأسري تكمن بفهم الناس والتحدث معهم والاستماع إليهم وتقديرهم وعدم إهمالهم، وهي محاور تشكّل في مجملها مكونات الوعاء الاتصالي الناجح.
وإذا ما ذهبنا إلى التفاصيل فإن التعاطف مع الآخر، وحُسن اللقاء، والمصداقية، والتواضع، والوضوح، والوفاء بالوعود، والتبسّم واللباقة في التعامل، والتحلّي بثقافة التعبير عن الأفكار بهدوء والابتعاد عن التحيز والاندفاعية في الحديث تبقى من العناصر المعززة للوصول إلى اتصال ناجح وبناء علاقات إنسانية متينة تشكّل قاعدة صلبة لأي علاقة لاحقة سواء اجتماعية أو مهنية.
ويبقى هناك مراعاة الفوارق الذهنية والثقافية والتعليمية والاجتماعية للمتلقّي، والتي تستدعي انتقاء اللغة والمصطلحات وأدوات التعبير الملائمة لضمان الوصول إلى درجة التأثير المنشودة، وإحداث ذاك التفاعل المطلوب والذي من شأنه أن يثري حوار الطرفين ويبني رسالة اتصالية واضحة وخالية من الشوائب والعوائق.
وعلينا أن نقول أن عدم الالتفات إلى الاتصال باعتباره مهارة وفن، وعدم إيلائه الاهتمام اللازم على اعتباره نوعًا من الرفاهية الزائدة عن الحاجة، أمر ينطوي عليه العديد من الأزمات والآفات التي يمكنها أن تنعكس بآثارها على سلامة وصحة الأسرة وبيئة العمل أو المجتمع، وأن تخلق أجواء يسودها الخلافات والاختناقات وسوء الفهم بل والتناحر والبغضاء.
إنسانيًا؛ فإن التواصل الناجح والمثمر يتوافق مع جوهر وغاية المجتمعات الإنسانية الداعية إلى الترابط ومد جسور التعاون والتآلف والتعاضد وتقبّل الآخر واحترامه باعتباره منطلقًا أساسيًا لإعمار الكون.
أما وطنيًا؛ فإن الالتزام بمبادئ الاتصال السليم والناجح من شأنه يساهم في مسيرة التقدّم، ويعزز من تماسك الجبهة الداخلية التي تمثّل الضمانة الرئيسة لحركة النهضة المستدامة، فضلًا عن أن الممارسات الاتصالية الناجحة ستسهم في رفع المنجزات باعتبارها موردًا هامًا من موارد القوى الناعمة التي ترتكز عليها الاستراتيجيات الوطنية للتعبير عنها وبناء سمعتها وتعزيز حضورها، ليبقى الاتصال دعامة لمستهدفات الرؤية، ومصونًا من العشوائية، مدعومًا بالاحترافية وبالكفاءة.
والأمر ذاته يسري على العمل المؤسسي الذي يتطلب حتمًا قيادات مؤهلة "إتصاليًا" وقادرة على صناعة صورة ذهنية إيجابية عن مؤسساتها لدى جمهورها المستهدف، والبناء على سمعتها الإيجابية بدلًا من زعزعتها لتحفّز الإنجاز لا أن تعرقله.




http://www.alriyadh.com/2014495]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]