تشير النظرية الاقتصادية إلى محدودية الموارد وندرتها النسبية، فبحلول عام 2050م سيكون هناك نحو 9.7 مليارات شخص يعيشون على الأرض، وهذا يتطلب تقنين استخدام الموارد البيئية، لذا فهناك حاجة ماسة إلى نماذج اقتصادية جديدة تقلل من استنفاد قاعدة الموارد الطبيعية وتدهور الأنظمة البيئية.
ومن هذه النماذج الاقتصاد الدائري الذي يندرج في إطار التنمية المستدامة، للحد من الهدر القائم على تصنيع المنتجات من المواد الخام وبيعها واستخدامها ثم التخلص منها برميها أو حرقها، مما يشكل خطراً على البيئة ونضوب الموارد؛ ويعتمد على إدراج البيئة داخل الصناعة وإعادة تصميم أنظمة التصنيع؛ كإعادة التدوير ومراعاة الأبعاد البيئية للعمليات الصناعية والتكامل الصناعي.
وهناك دول كثيرة بدأت منذ زمن باستخدام الاقتصاد الدائري مثل ألمانيا التي تعيد تدوير 67.6 % من النفايات المنزلية و70 % من النفايات الصناعية والتجارية، وهناك أكثر من 15500 منشأة لإدارة النفايات فيها حسب تقرير الوزارة الفدرالية للبيئة عام 2018م، ووجدت دراسة أجريت عام 2018م حول إعادة تدوير الذهب والنحاس من أجهزة التلفاز المهملة في الصين، أن العملية كانت اقتصادية أكثر 13 مرة من التعدين الأولي. وكذلك فنلندا تعد من أوائل الدول التي تبنت فكرة التحول الدائري في العالم خاصة في مجال البلاستيك، حيث وصل معدل إعادة التدوير في هذا المجال ما يفوق 90 % من الزجاجات والعلب. وأفاد تقرير الرابطة الأوروبية للإسمنت الصادر في مايو 2019م أنه يمكن رفع نسبة استخدام طاقة النفايات في مصانع الإسمنت من 36 % إلى 95 % مما سيحقق وفراً قدره 15.6 مليار يورو، ويقلل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقدار 41 ميغا/ طن سنوياً. كما أن النفايات الإلكترونية هي الأسرع نمواً في العالم وفقاً لوكالة الصحة التابعة للأمم المتحدة، وقالت الشركة العالمية لإحصاءات النفايات الإلكترونية (GESP): إنه من بين 53.6 مليون طن تم إنتاجها في جميع أنحاء العالم عام 2019م، لم يسجل سوى 17.4 في المئة فقط منها على أنها مجمعة ومعاد تدويرها على النحو المناسب، وأود أن أشير هنا إلى تجربة اليابان التي طلبت من مواطنيها التبرع بالأجهزة الإلكترونية القديمة للجنة أولمبياد طوكيو، ووصل حجم التبرعات إلى نحو 6 ملايين و210 آلاف هاتف محمول، حتى إن العديد من متاجر الإلكترونيات والمدارس تبرعت بما لديها من أجهزة إلكترونية قديمة، ومن خلال إعادة تدوير هذه الكمية الكبيرة من المخلفات الإلكترونية، حصلت اللجنة المنظمة لدورة الألعاب الأولمبية على عشرات الكيلوغرامات من الذهب، ومئات الكيلوغرامات من الفضة، وآلاف الكيلوغرامات من البرونز، وهي المواد التي استخدمت في صنع الميداليات الأولمبية.
تحويل 100 % من النفايات الصلبة المنزلية
وفي المملكة نجد أنها سارعت للاستثمار في الاقتصاد الدائري، ووضعت رؤية 2030م من ضمن أهدافها تحويل 100 % من النفايات الصلبة المنزلية، و85 % من النفايات الصناعية من مكبات النفايات، ولتحقيق هذه الأهداف أطلقت المركز الوطني لإدارة النفايات "موان" لتنظيم أنشطة إدارة النفايات والإشراف عليها والعمل على تحفيز الاستثمار فيها والارتقاء بجودتها، ويستهدف "موان" إعادة تدوير 42 % من النفايات، وتحويل 35 % منها إلى سماد، و19 % لتوليد الطاقة عبر حرقها، كما وقع عدداً من الاتفاقيات مع بعض الشركات من أجل إدارة النفايات وخلق بيئة مستدامة وصحية، وأطلق ملتقى الاستثمار في قطاع النفايات للتعريف برحلة التحول في قطاع إدارة النفايات وتسليط الضوء على أبرز التوجهات الاستراتيجية والفرص الاستثمارية الواعدة، التي ستسهم في تطوير اقتصاد المملكة وتنويع الناتج المحلي، وتوفير 77 ألف فرصة عمل وأكثر من 120 مليار ريال زيادة في إجمالي الناتج المحلي بحلول 2035م، كما تم إطلاق شركة "سرك" بهدف تطوير وتمويل أي نشاط يقوم على إعادة التدوير وتحقيق الاقتصاد الدائري، وقد أكد الرئيس التنفيذي لـ"سرك" المهندس زياد الشيحة، حرص الشركة على تلبية تطلعات وتوجهات القيادة الرشيدة بتحقيق أهداف إعادة التدوير الطموحة لرؤية المملكة 2030، والإسهام في تعزيز دور مبادرة السعودية الخضراء برفع نسبة تحويل النفايات عن المرادم إلى 94 % بحلول عام 2035م. وأيضاً تعمل المملكة على إعادة تدوير مخلفات الهدم والبناء خصوصاً أن المملكة تشهد حالياً مرحلة تطوير وإعادة بناء الأحياء القديمة في مناطق متفرقة من الرياض وجدة وغيرهما، والتي ينتج عنها الكثير من مخلفات البناء والهدم التي يمكن إعادة استخدامها، وقد أعلنت "سرك" إعادة تدوير أكثر من 16 مليون طن من مواد البناء والهدم خلال عام 2022م، وساهمت في مبادرة صناعة البلوك الإسمنتي الأخضر من خلال إعادة تدوير بقايا الخرسانة الجاهزة، كما وقعت "سرك" مع "نادك" مؤخراً اتفاقية لإعادة تدوير ما يزيد على 150 ألف طن من مخلفات الأبقار سنويًا، لإنتاج الأسمدة العضوية عالية الكفاءة، وهو أول مشروع نوعي في الشرق الأوسط. وهناك تجربة أرامكو في تدوير الكربون للحد من ثاني أكسيد الكربون وإعادة استخدامه، وتعمل أرامكو على أحد أكبر المشروعات التجريبية لاستخلاص الكربون من مخلفات محطات الطاقة ثم احتجازه في باطن الأرض، وحقنه في مكامن النفط مما يساعد على حجز الغاز والمحافظة على مستوى الضغط ومضاعفة كمية النفط المستخرجة من البئر.
وعلى الرغم من التأييد الواسع الذي يتمتع به الاقتصاد الدائري إلا أنه شهد تنفيذاً محدوداً بسبب غياب مشاركة أصحاب المصلحة وعدم اتضاح الرؤية نحو هذا المجال المهم، خصوصاً إذا علمنا أن قيمة سوق إدارة النفايات العالمي بلغ 383.83 مليار دولار عام 2020م، ومن المتوقع أن يسجل معدل نمو سنوي مركب بنسبة 5 % حتى 2026م، حسب تقرير سوق إدارة النفايات، لذا أتمنى تنظيم سوق إدارة النفايات بطريقة أفضل بدءاً من مرحلة الجمع ثم النقل ثم الفرز والمعالجة وإعادة التدوير إلى مرحلة التخلص منها نهائياً، لكي يتم خلق بيئة مناسبة لشركات إعادة تدوير المخلفات، وإلزام المصانع والشركات بالتخلص من مخلفاتها بطرق مناسبة والاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال، وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة في تدوير النفايات ومنحها بعض المميزات، كتخفيض الرسوم والضرائب على المنشآت والمصانع التي يزداد اعتمادها على المخلفات، فيكون استهلاكها للموارد أقل.
أخيراً، إن المملكة بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- تبذل جهوداً كبيرة في مجال الاقتصاد الدائري وإنتاج الطاقة النظيفة، وحماية البيئة، وما مشروعات نيوم وذا لاين وأمالا إلا تأكيد على رؤية بلادنا للمستقبل القائم على مفهوم التنمية المستدامة بنظمها الجديدة.
سعد بن إبراهيم المعجل




http://www.alriyadh.com/2030838]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]