الذكر الحسن إنما يحرص عليه العقلاء لا لذاته، بل تبعاً لما يسبقه من المحامد، وما يلحقه من المنافع؛ إذ هو يُعينُ المذكور بخير الممدوح إلى الاستزادة من تلك الفضائل، وشكر الله تعالى عليها، ويدعو غيره إلى الاقتداء به فيها..
النفس البشرية مجبولةٌ على التَّوقِ إلى نيل نوع من المآرب تختاره وتتعلق به، وتتنوع مآرب النفوس إلى ماديةٍ ومعنويةٍ وخليطٍ منهما، ومن المآرب المعنوية حسن السمعة والصيت الحسن، ولا يخفى على من هو بمستوى الرغبة في الذكر الحسن أنه لا يناله إلا من سعى مساعيَ حميدةً، وقدَّم للبشرية خدماتٍ جليلةً، وانطلاقاً من استشعار الحاجة إلى مثل هذا الرصيد المعنوي يصبو كثيرٌ من الناس إلى أن يظهر بمظهر النافع المنجز، ويكره أن يُظَنَّ به أنه قليل الجدوى مغمورٌ في صفوف عامة الناس، لكن هذه الأمنية كغيرها من الأماني في أن أنظار أصحابها تتباين في اختيار الوسائل الموصلة إليها، وبعض هذه الوسائل تأتي بنتائج عكسية تعود على أمنية سالكها بالإبطال، فتجتلب لمن تعاطاها سوء القالة واستحقاق الذم، وتُفوِّت عليه ما كان حريصاً على الوصول إليه، وما من وجهةٍ يسلكها الإنسان في تحقيق ذلك إلا وهي خاضعةٌ لمعيار التقويم والنقد، فما كان منها معوجّاً لم يُعذر سالكها مهما كانت غايته، ومن الوسائل المنتقدة التشبع بالقول مع قلة الفعل، ولي مع من قلة الأفعال وضجيج الأقوال وقفات:
الأولى: الذكر الحسن إنما يحرص عليه العقلاء لا لذاته، بل تبعاً لما يسبقه من المحامد، وما يلحقه من المنافع؛ إذ هو يُعينُ المذكور بخير الممدوح إلى الاستزادة من تلك الفضائل وشكر الله تعالى عليها، ويدعو غيره إلى الاقتداء به فيها، فإذا كان الذكر الحسن ناشئاً عن الانقياد لله تعالى ونفع البشرية فيما يعود عليها بمصالح الدارين، والإنجازات التي يبقى أثرها ويتعدى نفعها، فهو المحمود الذي امتنَّ الله تعالى به على أنبيائه عليهم السلام فقال عن بعضهم: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} وحكى لنا أن خليله إبراهيم عليه السلام دعا لنفسه به في قَوْلِهِ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}، وسبيل نيل مثل هذا الصيت الميمون تقديم الإخلاص في الأفعال، وحب الخير للخلق، وصفاء القلب عن الكدورات التي إن كمنت فيه لم يخف تأثر الأعمال بها، ولم تظهر بمظهر يستحق الثناء والإعجاب، ومن هُدِي إلى الصدق في نيته وبذل طاقته في مصلحةٍ من المصالح فقد عرف الطريق، ولا يبقى له إلا لزومها والاستمرار فيها، ولن تخلو ألسنة الأخيار والأبرار عن ذكره بما ينبغي، وقد يكمن ذكره بين طيَّات الزمن لموجبٍ اقتضى ذلك، لكنه يوماً ما سيُحمدُ عاجلاً أم آجلاً، وقد ينتعش ذكر منجزٍ لاكتشاف أعماله بأخَرَةٍ بعد أن مضت عليها أزمانٌ وهي مغفولٌ عنه، والإخلاص له سِرٌّ عجيب، ولا يكاد العمل الذي خالطه يضيع.
الثانية: من كان له سعيٌ من شأنه أن يُشكر فهو في غنى عن أن يُثير حوله ضجيجاً من القول؛ للفت الأنظار إليه، فهو مكفيٌّ ذلك، وما عليه إلا العمل، وحديث الإنسان عن أحواله وما يرفعه من أفعالٍ أو مكتسباتٍ أو مكانةٍ لا يخلو من أحوال؛ لأنه إما أن يتمحض فيه القول، فيقول ما لم يفعله ويتعاطى ما هو بعيدٌ عنه، وهذا قبيحٌ بالشرع والعرف، وفي مثله ورد حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَقُولُ إِنَّ زَوْجِي أَعْطَانِي مَا لَمْ يُعْطِنِي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ، كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» متفق عليه، وقد تهكم العرب من مثل هذا الصنيع فقالوا عمن يصنع مثل هذا: (كالحادي وليس له بعير)، وإما أن يكون المتحدث قد اكتسب بالفعل ما تحدث عنه من منقبةٍ ونحوها، وهذا لا يحسن به الحديث عن هذا إلا في مواطن معينةٍ يعرفها العقلاء، وفيها يتحدث أحدهم عن إنجازه، كمن يذكر من فضله ما تدعو الحاجة إليه رداً على الباغي عليه الجاحد لفضله، كما صنعه الخليفة الراشد عثمان رضي الله تعالى عنه لما خاطب الباغين عليه.
الثالثة: لا يقتصر قبح ضجيج القول الفارغ على الحديث عن الماضي المنجز، بل يقبح كذلك في المستقبل، بأن يقول ويعد ولا يفعل ولا يُنجز، وهذا شديد الشناعة شرعاً وعرفاً، قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)، وهو عكس المستحسن لأن الأليق أن يصنع الإنسان الصنائع من غير أن يسبقها قول، ومن قول بعض حكماء العرب: (فضل القول على الفعل لؤم، وفضل الفعل على القول مكرمة)، وهذه المقولة تجمع نظام الموازنة بين الأقوال والأفعال في نواحٍ متعددة؛ لأنها تُعبِّرُ عن شناعة إرباء القول على الفعل، ويكون ذلك بوصف النفس بغير ما فيها، وبإخلاف الوعد، وبالمن بالمعروف، بحيث يبذل قليلاً، ويؤذي بذكره، والأذى مهما كان فهو كثيرٌ يُربي على الصنيع.




http://www.alriyadh.com/2031394]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]