يقترب العقل من الحكمة حينما يتجرد من شهوة الأحكام؛ ويعفي نفسه من مهمة "إصلاح الكوكب"، هكذا أصبحت مؤخرا في الرد على الكثير من القضايا الطارئة والملحة أختار الصمت واكتفي بالرصد الاجتماعي، لكن هناك مد لغوي متصاعد مثير للقلق، بل مؤذٍ للعين كرؤية الخطابات التي تزايد على إنسانية البشر وتتراقص على المال والمادة، سواء بين الزوجين أو الأصدقاء وهذه الموجات بكل صراحة لا تشبه تربيتنا ولا تمت لقيمنا النبيلة والكرم الفطري الذي نراه في سلوك والدينا وأنفسنا وقادتنا - حفظهم الله - ولنا فيهم أسوة حسنة في السخاء والإيثار، فكم هو من المعيب أن يمن الإنسان في عطائه أو تصبح نقاشات الجيل الشاب منحصرة في (تقسيم فاتورة) والخلاف عليها، بل تصعد هذه الخلافات لتصبح رأيا عاما ممجوجا ومضللا أمام موج الاندفاع لتقزيم القيم والذي هو بالطبع أمر مقلق.
بلا شك إن هناك فجوة مفاهيمية بين الأجيال، لكن لا يمنع أن نتحدث معهم بأريحية عما هو مقبول وغير مقبول، إن تغذية الجانب الروحاني لديهم مسؤوليتنا جميعا حيث يلجأ عدد ليس بالقليل للأمور التحليلية الافتراضية كتحليل الشخصيات والأبراج بل حتى فصائل الدم ولا أقلل من قيمة هذه المعارف ومدارسها وإن اختلفت معهم في الأسس، لكن على الجانب الآخر هذا الانتشار المخيف لها قد يعكس قلقا ومخاوف نفسية للباحثين عنها والراكضين وراءها، مهم أن لا نتحاور معهم بسلطوية لكن نطرح لهم الوسائل السليمة والآمنة في بناء العلاقات والأفكار وإدارة الغضب والمشاعر.
محبة الأصدقاء والعائلة ليست بالأمر البسيط، بل هي التزامات وواجبات وتهذيب النفس بالإحسان والعطاء هي الأساس السوي للتربية مهما طالت الأزمنة وتتالت التغيرات، النفس لا تهدأ ولا تسكن إلا بعلاقات صحية يكون الفرد فيها يشعر بكيانه ويعبر عن مخاوفه دون قلق من إطلاق الأحكام، الوعي النفسي والاجتماعي والاقتصادي كلها أمور تترابط لتشكل ما يسمى بالتبادل الاجتماعي حيث لا تتحقق المصالح الشخصية بالغالب إلا من خلال شبكات العلاقات الاجتماعية وهي ليست بالأمر المعيب طالما أنها تخضع للقوانين ولا تتجاوزها ولا تحدث أي ضرر لأي طرف.
في 2015 نشرت الدكتورة حصة السند دراسة ميدانية بعنوان: "واقع الخلافات الأسرية في المجتمع السعودي والتخطيط لمواجهتها" وهي متاحة مجانا عبر الإنترنت أنصح بالاطلاع عليها لأهميتها، جاءت أبرز نتائجها أن هناك تفاوتا في تفسير مفهوم الخلافات، وكذلك طبيعتها وأشكالها وصولا للأسباب المؤدية لنشوبها، وجدت الدراسة أيضا أن مفهوم المجادلة والمخالفة والتعدي مثلا يوجد عليه شبه إجماع في مدى اعتباريته كما ورد الهجر بين الزوجين ونقص التواصل وصعوبات النفقة بين وصف طبيعة المشكلات، ولعل من أكثر الآثار التي استوقفتني اكتساب الأبناء لخبرات قد تساهم في مشكلات أكبر في حياتهم المستقبلية. وقد حددت السند الآليات التنفيذية لمواجهة هذه الآثار مع تصور مقترح. وهو اليوم ما أصبح يروج له من سماسرة الطاقة بأنه "جروح الطفولة وجرح الأب والأم" وحفلات التشافي وتخصيص أيام محددة لإطلاق النوايا، إن لم يكن هذا اختطاف لبناتنا وبناتنا لعقولهم ومستقبلهم ماذا سيكون إذن؟.
بكل حال أقول لكم: في زمن "أنا ومن بعدي الطوفان" كن أنت "سفينة نوح"، والسلام على أرواحكم الطيبة.. دمتم بوعي.




http://www.alriyadh.com/2031396]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]