مما يُعينُ على عدم هدم الأعمال استحضار أهمية الاستمرار في العمل ولزومه، ومعرفة أن ذلك من صميم السنة النبوية، فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله تعالى عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه..
لا يستغني الإنسان عن أن يحافظ على كل ما يهمه من عملٍ صالحٍ عمله، أو مكتسبٍ مرغوبٍ حصَّله، أو ميزةٍ تُعلي شأنه قد حباه الله بها، ولكل من هذه الأمور نوعه الخاص به من الصيانة، ويُستعانُ على حفظه بالأدوات اللائقة بذلك، ولا تنجع تلك الأدوات إلا باتباع عادة الناجحين من لزوم الدرب وإدمان العمل، ومن بالغ الغبن أن يغضَّ الإنسان الطرف عن مكتسباته، فلا يهتم بما يحفظها من التلاشي، وأن يُسلِمَ جهودَه إلى الضياعِ بعد ما عانى النصب والكدّ في غرس بذورها، ورُجي فيها - لو صينت - أن تثمر له حسناتٍ وإنجازاتٍ، وأن يحقق بها مصلحة تتعلق بدينه ودنياه على أتمِّ الوجوه الممكنة، ولم يحل بينه وبين تحقيق تلك الأُمنيَّة إلا توانيه عن سقي مغارس أعماله بمعين العناية والتعاهد، والزهد في صيانتها عما يقضي عليها من الآفات، وهل يُقدمُ على هذا التفريط إلا من لا يقدر نفسه حق قدرها، أو من يجهل أن قيمة المرء تتجلَّى فيما أنجز من أعمالٍ، وما حقق من نجاحٍ على أيِّ مستوى كان ذلك النجاح؟ ولي مع هدم الأعمال وقفات:
الأولى: يقع بعض الناس في الوهم، فيتَّكِلُ بفهمٍ خاطئٍ على ما تقرر شرعاً وعرفاً من غلبةِ الحسنة للسيئة، كما في قوله تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الْلَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذلك ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ»، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا)، وتعارف على هذا أهل الأحلام والنهى، قال الشاعر:
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ … جاءتْ محاسنُهُ بألفِ شفيعِ
والواقع أن هذا الذي يتخذه المهمل معوَّلاً يُعوِّلُ عليه هو ضدُّ الإهمال وعكس التراخي؛ فالمأمور به في الآية الكريمة والحديث الشريف محو السيئة بالحسنة، وهذا نوعٌ من الصيانة المضادة للإهمال، فالعصمة خاصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسائر الناس عرضة للزلل والخطأ، فإذا حصل له ذلك لم يسبح مع تيار الخطأ، بل يتراجع ويرمِّم عمله بالحسنات، ولو لم يفعل ذلك بل تمادى وأصرَّ ولم يستشعر الندم ولا أنبه ضميره، فهو بمعزلٍ عن أن يُبرِّر صنيعه، وأيضاً السيئات والأخطاء إنما تتلاشى في مقابلة الحسنات إذا كان الغالب الإحسان كمّاً ونوعاً، فعنده يكون الخطأ إذا حصل مغموراً في بحر الحسنات، وفي مثله يقال: "كفى المرءَ نبلاً أن تعدَّ معايبُه"، ومن كانت أخطاؤه غليظةً خطيرةً أو كانت هي السمة البارزة فأين له منها آلاف الشفعاء؟!
الثانية: مما يُعينُ على عدم هدم الأعمال استحضار أهمية الاستمرار في العمل ولزومه، ومعرفة أن ذلك من صميم السنة النبوية فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه، وتخلِّي الإنسان عما شرع فيه من الأمور النافعة له في دينه ومعاشه خسارةٌ أياً كان نمط تركه له؛ فقد يتركه لأنه مبتلى بالتنقُّل السلبي بين الأعمال، فيشرع في هذا ثم يتركه وينتقل إلى ذاك ثم إلى غيره، وفي كلها يخسر وقتاً وجهداً ومالاً بلا مردودٍ يُذكر، وقد يترك مشروعه الأول لمجرد حب الدعة والتفرغ التامِّ، وهذه بطالة لا يرضاها اللبيب لنفسه، ولكن أخطر أنواع التخلي عن الأعمال المثمرة أن يتركها الإنسان إلى أضدادها المدمرة، فيترك طاعة الله تعالى إلى معصيته وانتهاك حرماته، وينتقل عن البرِّ إلى العقوق، وعن لزوم الجماعة والسمع والطاعة لولي الأمر إلى شقِّ العصا والتشويش على المجتمع، ويترك التدبير وحفظ المال الذي هو قوام الحياة إلى التبذير والاشتغال بالكسب غير المشروع، ولا ينخرط في هذا إلا مغبونٌ مغلوبٌ على رشده، أو خبيثٌ ينطوي على الشر ولا يُطيقُ ملازمة طريق الحق والصواب.
الثالثة: من أسوأ أنواع الهدم أن يتجاوز الإنسان ممارسته بنفسه، فيحاول أن يحمل الناس عليه؛ وذلك بترويج بعض أساليبه وتزيينه، وتسميته بأسماء براقة رائجة عند الناس، والغالب أن يمتهن هذه المهنة الخطيرة من جرَّب مرارة الأمر، وذاق طعم الحسرة بعد ما قضى على مصالحه ومستقبله، لكن لسوء سريرته وغشه للأمة يحرص على أن يقع أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس فيما وقع فيه، وكأنه يرغب أن يتورط الناس فيما تورط فيه لعله يُقنعُ نفسه بأنه معذورٌ في سلوكه الشائن؛ لأنه كلما رجع إلى نفسه أخفق في أن يجعلها مطمئنة بحسن ما يفعله، فالمتورطون في أوحال الإخفاق المروجون لإشكالياتهم يحسون في أعماقهم بما يُحيطُ بهم من البشاعة، وإن تظاهروا بالتجاهل والتجلد المفتعل، فصاحب الأفكار الهدامة والعاقُّ لوطنه وقيادته، والمتنكر لمجتمعه ومروج المخدرات والخائن للأمانة الوطنية كل هؤلاء ومن ضاهاهم واقعون في أزمةٍ حادَّةٍ يُخيَّلُ إلى بعضهم أن انزلاق غيره إليها يخفف من قبحها، وهذا من سوء تقديره، فتزيين القبيح للناس ورطةٌ أخلاقيةٌ أخرى.




http://www.alriyadh.com/2033789]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]