المثل فنّ إنساني من فنون القول، لا يتميّز به زمان على زمان، ولا تختصّ به أُمّة دون أُمّة. ولم يسرِ شيء كما سار، ولم يعُمّ كما عَمّ، حتى قالوا: «أسيَر من مثَل»، والشاعر يقول:
ما أنت إلا مثَلٌ سائرٌ
يعرفه الجاهل والخابِرُ
وللمثل ميزة على سائر القول، في تقريب المعنى من فهم المُخاطَب، وتقريره في ذهن السامع.
والأمثال تنقسم إلى قسمين: أمثال واقعية، وأمثال فرَضية.
وتُسمّى الأمثال واقعية أو حقيقية، إذا كان لها أصل معروف نُقلتْ عنه، وسيقَتْ له، وهي واقعية إذا انتُزعتْ من واقع الحياة وأعمال الناس، فبعض القصص الحقيقية أدّت في النهاية إلى ضرب الامثال، مثل: «رجع بخُفّي حُنين»، و»الصيف ضيّعت اللّبن»، و»على أهلها جنت براقش».. وغيرها من القصص التي تحفل بها كُتب الأدب العربي.
والأمثال الفرَضية هي ما كانت من تخيّل أديب، ووضعها على لسان حيوان أو نبات أو جماد، وهناك بعض القصص الخرافية التي روُيَت على ألسنة الحيوانات، فذهبت أمثالاً، مثل: «في بيته يؤتى الحكم»، و»كيف أعاودك وهذا أثر فأسك»، والأول محكيّ على لسان الضّب، والثاني على لسان الحيّة، و»إنما أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض».
وأغراض الأمثال الواقعية لا تكاد تُعدّ ولا تُحدّ، لأنها لفتات من الذهن، وفلتات من اللّسان، تُقال عفو الساعة، وفيض الخاطر في شتّى المناسبات، فتعلق بالأذهان، لاشتمالها على حكمة أو طُرفة، أو لدلالتها على طبعٍ أو خُلق، وهي، ما عدا الأدبي منها، صورة للطباع، ومرآة للمجتمع.
فمن الأمثال الأدبية، قولهم: «إنك لا تجني من الشوك العنب»، و»رُبّ كلمة تقول لصاحبها دعني»، و»رُبّ غيثٍ لم يكُن غيثاً»، و»من سلك الجَدَد أمِن العثار»، و»يدك منك ولو كانت شلاء».
إن بين الأمثال الواقعية والفرضية فروقاً في الأسلوب والدلالة والغرض، ولكن أبيَن هذه الفروق وأبعدها؛ أن الأمثال الواقعية قلّما تسير إلا في الأُمّة التي نشأتْ فيها، كقولهم: «وافق شَنّ طبَقة»، فإن هذين الزوجين المُتوافقين كانا من العرب، فلم يُضرب بتوافقهما المثَل إلا في بلاد العرب.
ومن الأمثال الواقعية النادرة التي عاشت في غير أَمّتها وبيئتها؛ قول الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر لأقرب الناس إليه، وأعزّهم عليه، وقد ائتمر عليه مع المؤتمِرين ليقتلوه: «حتى أنت يا بروتوس»!؟
وكذلك قول الملك الفرنسي لويس الخامس عشر، حين أخذته الصيحة من اعتراض النوّاب، واحتجاج القُسس، وتوجيه الفلاسفة، بعدم التفكير في العواقب الوخيمة للهزيمة: «أنا ومِن بعدي الطوفان»!
ولكن الأمثال الفرَضية عملية تتناولها الأفواه من جيل إلى جيل. والغرض المقصود منها هو تقويم الأخلاق بالحِكمة، ورياضة النفس بالموعظة، عن طريق التعريض والرمز. وهذه الأمثال وليدة الشرق، لأنه كان موضع الحُكم المُطلق والاستبداد، فانبعثت مثل هذه الأمثال من صدور الضُعفاء، ليُدركوا بها ما يُريدون من غير تعرّض لسخَط، أو مواجهة لخطَر. وفي مُقدّمة كتاب «كليلة ودمنة» لِما وقع بين دبشليم المَلك، وبيدبا الفيلسوف؛ ما يؤيّد هذه الفكرة، بعضها يُمثّل منهجاً مُعيّناً في الحياة، كقولهم: «إن الحديد بالحديد يُفلَح»، وبعضها ما يحمل توجيهاً خاصّاً، كقولهم: «قبل الرّماء تُملأ الكنائن».
لقد نشأتْ هذه الأمثال الفرَضية أو الرمزية في الهند، ثم انتشرتْ منها في الصين، ثم انتقلتْ إلى فارس، ثم إلى بلاد العرب، ثم إلى بلاد الإغريق.
ومن أقدم ما عُرف منها مثَلٌ في التوراة، ثم أمثال لُقمان الحكيم العربي، وأمثال بيدبا الهندي، ولافونتين الفرنسي.
وأشهر من كتب فيها من أُدباء العرب، ابن المُقفّع مُترجم كتاب «كليلة ودمنة»، وسهل بن هارون صاحب كتاب «ثعلة وعفرة»، وابن الهبارية ناظم «الصادح والباغم»، وابن عرب شاه صاحب كتاب «فاكهة الخُلفاء».
وقد عالج بعض الأُدباء في العصر الحديث في أعمالهم الأمثال الفرَضية، فوُفّقوا فيها، كأحمد شوقي في ديوانه «الشوقيات»، ومحمد عثمان جلال في كتابه «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ». وإن كان مُعظم ما أتوا به منقول عن لافونتين الفرنسي.




http://www.alriyadh.com/2047616]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]