يقدم مفهوم الشيفرة الثقافية تصوراً عملياً منهجياً يمكن من خلاله قياس كيف تتطور الذاكرة الجمعية، وماهية علاقتها بالممارسات اليومية، وكيف أن هذه الممارسات هي التي تخلق الفضاءات المكانية وتحدد أنماط استخدامها، بل إنها كذلك تبين كيفية تموضوع الإنسان داخل هذه الأماكن..
يفترض المعماري يوسف السحيمي (أحد طلاب الدكتوراة في قسم العمارة بجامعة الإمام عبدالرحمن الفيصل) أنه يوجد "شيفرة ثقافية" في المسكن السعودي، وأن هذه الشيفرة يوجد بها حمض نووي DNA توريثي يتطور ويتغير مع تغير المجتمع ليصنع في كل مرة "شيفرة ثقافية" جديدة مختلفة عن سابقتها. هذا الافتراض لا يقتصر على المسكن بل يوجد في كل مكوّن ينتجه المجتمع بشكل واعٍ أو غير واعٍ، وغالباً ما تتكون هذه الشيفرة بشكل تدريجي ويمكن من خلالها فهم وقياس التحولات العميقة التي تحدث نتيجة لتفاعل المجتمع مع النشاطات الثقافية التي يمارسها يومياً ويشكّل من خلالها الأمكنة وينتج منها المنتجات الفنية والأدبية، الشيفرة مرتبطة بأنماط الحياة وما تولّده من نشاطات توجه الفعل الجمعي وبالتالي تميز مجتمع عن آخر. بالنسبة للسحيمي تعمل هذه الشيفرة على خلق هوية خاصة، وسواء رضي هذا المجتمع بهذه الهوية أم لم يرضَ بها فهي كامنة في بنية هذا المجتمع الثقافية ولا يمكن التخلص منها إلا من خلال الانتقال إلى شيفرة جديدة، وهذا يتطلب وقتاً طويلاً.

يتفق الكثير على أن المجتمعات تخلق ذاكرتها الجمعية، لكن القليل من يفسر ماهية هذه الذاكرة وكيف تتكون وما هو دورها، وغالباً ما يربطون الهوية بهذه الذاكرة، بل إن البعض لا يفرّق بين الذاكرة والهوية وكأنهما شيء واحد، بينما يقدم مفهوم الشيفرة الثقافية تصوراً عملياً منهجياً يمكن من خلاله قياس كيف تتطور الذاكرة الجمعية، وماهية علاقتها بالممارسات اليومية، وكيف أن هذه الممارسات هي التي تخلق الفضاءات المكانية وتحدد أنماط استخدامها، بل إنها كذلك تبين كيفية تموضوع الإنسان داخل هذه الأماكن.

وإذا ما اتفقنا مع السحيمي في أطروحته وأن المجتمع، مهما مر بتغيرات وتحولات، يملك هذه الخاصية التي يصنع من خلالها البصمة الثقافية التي تميزه بشكل عام، وأنه لا يكتفي فقط بخلق هذه البصمة بل إنه يعيد برمجة المجتمع ومنتجاته المادية وغير المادية وفق هذه البصمة، فنحن بذلك نستطيع أن نقول إن هناك جانب غير مرئي من المجتمع تشير له دلائل مادية تحتاج منا أن نتنبه لها ونرصدها إذا ما أردنا أن نتنبأ بالتحولات الاجتماعية المستقبلية وتبعاتها.

وإذا ما سلمنا أن المجتمعات لا تستطيع أن تتخلص من شيفراتها الثقافية بسهولة وأن هذا يتطلب صدمات ثقافية، كما حدث مثلاً في المجتمعات الخليجية خلال السبعة عقود الأخيرة، وأن جزءاً من الشيفرات السابقة (قل أو كثر) لا بد أن يستمر في الشيفرة الثقافية الجديدة، فهذه النتيجة تقودنا بشكل أو بآخر إلى إمكانية استشراف المستقبل وتوقع ما يمكن أن يحدث في المجتمع وكيف ستتغير ممارساته والمنتجات التي يمكن أن ينتجها من خلال تتبع تكوّن الشيفرة الثقافية والإزاحات التي حدثت لها عبر الزمن. مثل هذه الدراسات معقدة وتتطلب منهجية أثنوغرافية متأنية وقدرة على فهم الأبعاد التاريخية والاقتصادية والسياسية وإسهاماتها في تكوين مجتمع ما. مثل هذه الفرضيات في مجال العمارة والفنون، على وجه الخصوص، تفتح أبواباً أمام المصممين والفنانين لفهم التغير في الذوق العام والتحولات التي قد تطرأ على أنماط حياة أفراد المجتمع وتحديد المنتجات المناسبة لهم.

أذكر أنني قرأت كتاباً حول ماذا يرغب فيه الناس، وكان عبارة عن مجموعة أمثلة لفترات كانت المجتمعات تمر فيها بتحولات صادمة ومنها المجتمع الإنجليزي في بداية القرن التاسع عشر بعد الثورة الصناعية وتحول المنتجات من الحرفة اليدوية إلى الآلة. منتج الأواني الفخارية "وودجوود"، وهي علامة تجارية لا تزال موجودة ومن أرقى العلامات لمنتجات الأواني الفخارية، قرر أن ينتقل إلى التصنيع بالآلة لكنه قام بدراسة "الشيفرة الثقافية" للمجتمع الإنجليزي وحاول أن يتوقع ذائقة المجتمع حتى يكون الانتقال سلساً ومقبولاً. يبدو أن فهم الشيفرة الثقافية ساعد كثيراً من المصنعين في تلك الفترة على التحول إلى الآلة دون أن يصدموا بذائقة المستهلكين التقليدين. ربما يقودنا هذا إلى أن فهم هذه الشيفرة جزءٌ من فكرة "التسويق" كذلك، ليس تسويق المنتجات فقط بل الأفكار الجديدة وجعل المجتمع يتكيف معها بسهولة.

أجد علاقة واضحة بين فكرة "الشيفرة الثقافية" و"النواة الإبداعية" التي تناولناها في أكثر من مقالٍ في هذه الصحيفة، ووجه القرابة بين الفكرتين يكمن في الجوهر وفي بنية المجتمع الثقافية التي عادة ما تتولد منها الثقافة، وهي بنية تتكون من شق "جيني" راسخ في مكون المجتمع وشق خارجي مكتسب من التحديات وصدمات التحول وما يصاحبها من أفكار وممارسات جديدة. هذا الخليط هو الذي يصنع الشيفرة الثقافية لأي مجتمع، وفي الوقت نفسه هو الذي يدفع به إلى صناعة حضارة لها هوية تختلف عن باقي الحضارات.




http://www.alriyadh.com/2051242]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]