يواجه كثيرٌ ممّن درّس الأدب سؤالًا ملحًّا من طلّابه، وبعض متذوّقيه يتعلّق بصدق الموضوع الفنيّ المعالج في الأعمال الأدبيّة، من مثل: هل تلك الأحداث حقيقيّةً؟ وهل كان المشهد كما عُبّر عنه؟ هل ما وصفه المبدع، وتحدّث عنه، وعالجه يستحق تلك اللغة الواصفة والمشاعر الضافية؟ إنّ مثل هذه التساؤلات فيها خلط كبير بين الفنّ والمخيّلة من جهة، والعلمِ والمعرفة من جهة أخرى، ولكّل دربه الخاص؛ فالفنّ بما يشتمل عليه من خيال ومهارات لغويّة، وأدوات فنيّة يختصّ بها كلّ نوع منه، أبعد ما يكون عن الأسلوب العلميّ والحكم بصدقه الواقعيّ والتاريخيّ، بل إنّ الفن في كثير من مضامينه يتجاوز الواقع والحقيقة التاريخيّة كما تتبدّى للمتلقي.
إنّ تجاوز الفنّ مسألة الصدق الواقعيّ، والحقيقة التاريخيّة لا يعني بحال من الأحوال نعته بالكذب والتدليس، والبعد عن الواقع، إذ إنّ المسألة تتعلّق بطبيعة تكوينه المختلفة من حيث الرؤية، والأدوات الإنتاجيّة عن مثيلاتها في الحقول العلميّة أو التاريخيّة أو الاجتماعيّة التي تحكم العمل فيها، فللفنّ أحكامه الخاصة وأسلوبه المختلف.
يعبّر الفنّ عن ممكنات واقعيّة، وعن أوضاعٍ مأمولة، أو مرئيات يراها المبدعون ببصيرتهم ولا يراها الآخرون بأبصارهم، إنّه يُعاود النظر في التاريخ وأحداثه ويتأمّل ما لم يحصل، أو نتائج ما لم يحدث إنْ كان قد حدث، فالفنّ بناء عوالم يراها المبدع ويعيشها، وهدم لأخرى، وبهذا يتعيّن صدقه وتظهر حقيقته، إذ إنّ للفن عوالمه المتفرّدة بأزمنتها وأمكنتها.
يتمظهر الصدق الفنيّ في صدق المبدع مع تجربته الفنيّة، وفي إخلاصه لمشاعره التي يعيشها في واقعه الفنيّ، وعالمه المتخيّل حيث يفترض فيهما الإتقان، والانسجام، والمنطقيّة الأكثر إحكامًا من الواقع المعيش؛ إنّه صدق الخيال، ووضوح الرؤية الفنيّة، وألق الصورة الجماليّة بما فيها من شخصيات فنيّة، ومشاعر نفسيّة، وحالات إنسانيّة قد تبدو أكثر صدقًا وحقيقة من الواقع المعيش الذي يشترك فيه الجميع، وأقرب ما يمثّل الصدق الفني هو تمكّن الممثّل المسرحيّ المبدع من عمله حين يؤدي الدور الموكل إليه بإتقان وبراعة وصدق مشاعر من دون تكلّف ظاهر، وتصنّع سامج، فهو عندئذ صادق فنيًّا، مع أنّه لم يعش تلك المشاعر والحالات التي تتضمّنها بنية العمل الفنيّ واقعيًّا وشخصيًّا.
الفنّ ليس محاكاة للواقع فحسب، بل إن جوهره وسرّ ألقه يبرز في تجاوزه الواقع، فوظيفته ليست نقل الواقع وتخليده، فهذه وظيفة كتب التاريخ والسيرة، كما أنّ الواقع ليس معيارًا للحقيقة؛ إذ قد يكون مزيّفًا لها ومضلّلًا عنها، ليأتي وعي المبدع ورؤيته العميقة والفنيّة والجماليّة المخلصة لعمله؛ لتسهم في تشكيل واقعٍ جديدٍ، وتأسيس حقيقة أصدق، وحُلم أبهج وممكنٍ أجمل.
يجلي الفنّ الخالد في المتلقي مشاعر وحالات وجماليّات لم تكن لتوجد من نظرة عاديّة للواقعة التاريخيّة؛ إذ إنّ الفن يفطن لتفاصيل قد يمرّ بها الإنسان العادي من دون أن يتوقف عندها أو يبصر ما فيها من غنى وعمق يترك أثرًا وتغييرًا نفسيًّا وإنسانيًّا وجماليًّا يدوم في النفس.
إنّ الفنّ يتجلّى أيضًا -كما وصف «كونديرا» عالم «سرفانتس»- بوصفه غموضًا في إدراك المتلقي، وحينها ينبغي له أن يواجه بدل حقيقة وحيدة مطلقة، حقائق نسبيّة متعدّدة متناقضة، وأن يمتلك «حكمة اللايقين» بوصفها اليقين؛ لذلك فثمّة مناطق في النفس البشريّة والأخيلة العلميّة لا يمكن الوصول إليها إلا من طريق الفنّ.




http://www.alriyadh.com/2051233]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]