قد يكون الشيء مصلحة في وقت ولا يكون كذلك في وقت آخر، ويصلح مع شخصٍ ما لا يصلح مع غيره، وتتنوع مصالح الشخص نفسه بحسب أحواله وأزمانه وأماكنه، فيلزمه أن يراعي ذلك ولا يستصحب إجراءً جرَّبَهُ لحالةٍ في حالةٍ لا يُلائمها..
للإنسان دارُ عملٍ وفيها له معاشٌ وبُلْغةٌ إلى حين، ودارُ جزاءٍ هي مصيره الذي يؤول إليه، ولكي يجري أمره على السداد في كلتا الدارين لا بدَّ له من رعاية المصالح المتعلقة بكلٍّ منهما، وإنما يتوقف السداد فيهما على مراعاة المصلحة؛ لأنها إما أن تكون دينية أو دنيوية، أما الدينية فالحرص على تحصيلها جزءٌ من الإحسان وإقامة العبادة على الوجه المأمور به شرعاً، ولا يأتي بالقربات على الطريقة المثلى إلا من يفي بمتطلباتها، ويفتح السبل المؤدية إليها، ويمنع الذرائع المخِلَّة بها، وأما المصلحة الدنيوية فاحتياج الإنسان إلى جلبها وتكميلها جزءٌ من السعي والكبَد المكتوب عليه في هذه الحياة، وأساسٌ من أسس عمارة الأرض وإصلاحها، على أنها غير مستقلة عن المصلحة الشرعية؛ لأنها لا تُسمّى - في الحقيقة - مصلحة ما لم تكن مما وَجَّهَ إليه الشرع، أو مما تُقرُّه قواعده إجمالاً على حسب ما يشهد أهل الاختصاص بتحقق مناط المصلحة فيه، ولو اُفترض أن الشيء مُصادمٌ للشرع خارج عنه لم يَصْدُقْ عليه أنه مصلحة ولو ادعى متعاطيه أنه كذلك؛ ولهذا كان احترام المصالح وتقديرها والرجوع إلى أهل الاختصاص فيها مما يُحقق الفوز في الدارين، ولي مع المصالح وقفات:
الأولى: اتصاف الشيء بكونه مصلحة إنما يثبت بمعايير دقيقة، وعلوم متنوعة، فلا بدَّ من الحذر في موضوعها؛ إذ من شأنها إذا كانت مما راعاه الشرع نصّاً أن يكون عنوان مناطها مما يعلمه المتخصص في العلم الشرعي، لكن حصول ذلك المناط في الواقع مما لا سبيل إلى معرفته إلا بواسطة أصحاب تخصصات أخرى كالطب ونحوه، فإذا كان الحكم بالمصلحة المنصوصة كفطر المريض محتاجاً إلى تقديراتٍ واستشاراتٍ مع أن صلاحها والتمتع بالإرفاق بها حقٌّ مكفولٌ بالنص، فمن باب أولى المصالح المستنبطة التي يُهتدى إليها بالاجتهاد، وإذا كان هذا في المصلحة التي تنطبق على الفرد؛ لعارضٍ عرض له، فمن باب أولى أن يَدِقَّ مأخذ المصالح العامة المتعلقة بتسيير أحوال الناس، فاشتباكها وكثرة الاعتبارات التي تخضع لها تجعل الحكم فيها مما لا يقبل الخضوع للرؤى الفردية الصادرة عن الاستناد إلى الظواهر والعمومات؛ فإن المصلحة بشروطها المعتبرة شرعاً قد تقتضي ترك ما الأصل فعله، أو فعل ما الأصل تركُهُ، ولا تتعارض مع ذلك الأصل الثابت التي استُثنيت منه؛ بل يبقى الأصل مسلَّماً لكن لا يعوق مسلكَ المصلحة؛ ولهذا أبرم النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية، وأشكل ذلك على بعض الصحابة مثل عمر رضي الله عنه لتمسكه بعمومات أخرى، أقر النبي صلى الله عليه وسلم ما ساقه من العمومات ونبهه على استقامة دليل المصلحة المستثناة منها، فقد قال عمر: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟ فَقَالَ: بَلَى، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، أَنَرْجِعُ وَلاَ يَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: ابْنَ الخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا"، والحديث مخرج في الصحيح.
الثانية: لا ينبغي التشويش على من طبق دليل المصلحة المعينة بعد أن كان متروكاً في هذا الشيء، إذا كان التطبيق خاضعاً للمعايير المعتبرة شرعاً وعرفاً ونظاماً؛ لأن المصلحة قد تخضع للنسبية، فمن المصالح ما يختلفُ باختلاف الأزمان، وباختلافِ الأشخاص والأحوال، فقد يكون الشيء مصلحة في وقت ولا يكون كذلك في وقت آخر، ويصلح مع شخصٍ ما لا يصلح مع غيره، وتتنوع مصالح الشخص نفسه بحسب أحواله وأزمانه وأماكنه، فيلزمه أن يراعي ذلك ولا يستصحب إجراءً جرَّبَهُ لحالةٍ في حالةٍ لا يُلائمها، ويكون الشيء مصلحةً بقدرٍ معينٍ فإذا زيد عليه انقلب نفعه ضرراً، وهذا كله يستلزم التحري والتبصر وعدم الجمود على أعيان المصالح؛ لمجرد كونها مألوفة معهودة، بل يجب أن يكون الأخذ بها بحسب بقاء النفع الراجح فيها.
الثالثة: كما أن المصلحة لا تُستبقى بعد تحول الأحوال وإن كانت مألوفةً كما سبق، فكذلك لا تلازم بينها وبين كون الشيء محبوباً تتوق إليه النفس، فمصلحة الإنسان والمجتمع ما تَقَرَّرَ نفعه الراجح شرعاً ونظاماً وعرفاً تَقَرُّراً مُستفاداً من ذي المعرفة الموثوق من أولياء الأمور، وأهل المعرفة والخبرة، ولا يلزم أن تكون محبوبةً لكل فردٍ على حسب هواه، ومصداق ذلك قوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، وقياس هذا في المحسوسات كراهة المريض للدواء، والمكث بالمستشفى، والخضوع لمتطلبات العلاج مع أن هذه مصالحُ ثابتةٌ لا غبار على انتفاعه بها.




http://www.alriyadh.com/2052076]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]