جاءتني ابنتي رفاء التي تدرس في المرحلة الثانوية وملامحها منفعلة، فسألتها ماذا دهاك؟ فأجابتني: "استلمت ورقة اختبار في مادة علمية والتي تضمنت نتيجتي التي حصلت فيها على الدرجة الكاملة، ولكن عندما بدأت المعلمة في مناقشة الأسئلة والإجابات انتبهت إلى أنني أخطأت خطأ بسيطاً في إحدى إجاباتي ولم تنتبه لذلك معلمتي.. فما كان مني إلا أن حملت ورقتي بعد الحصة ونبهت المعلمة إلى الخطأ في إجابتي فشكرتني ونقصت بسبب ذلك ربع درجة!"، ولكي تكون الصورة واضحة للقراء الكرام فالمنافسة على أشدها في فصل ابنتي حيث ربع درجة أو نصف درجة من الممكن أن تغير ترتيبك من الأول إلى العاشر على المدرسة. قلت لابنتي: "أولاً أريدك أن تعرفي أنني فخور جداً بما صنعتيه ولا يهمني أبداً إذا كانت الربع درجة ستؤثر على ترتيبك أو تحرمك من تحقيق 100% في نتائجك. ربما نقصت ربع درجة ولكنك صعدت درجات عالية في الأمانة والنزاهة لا يستطيع صعودها بعض أصحاب المناصب العالية والشهادات الرفيعة. حافظي على هذه المبادىء يا ابنتي واعلمي أن الله عزوجل لن يخذلك وسييسر دروبك..".
ذكرني هذا الموقف بما حصل للاعب الجودو المصري محمد رشوان والذي حقق في مسيرته أكثر من 31 ميدالية بين ذهبية وفضية وبرونزية في بطولات عالمية وأولمبية وغيرها، ولكن اليوم الذي لا ينسى في تاريخه كان وقت المباراة النهائية على الميدالية الذهبية لرياضة الجودو في أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984م، في تلك المباراة كان محمد رشوان يواجه اللاعب الياباني ياماشيتا ياسوهيرو والذي يعتبر أحد أساطير اليابان في الجودو ولم يخسر منذ عام 1977م. ولكن وقبل المباراة النهائية تعرض ياماشيتا لإصابة تسببت بقطع في الوتر الداخلي لقدمه اليمنى والتي كان بالكاد يسير متحاملاً عليها. نصح المدرب لاعبه محمد رشوان أن يستغل نقطة ضعف منافسه الياباني ويضربه في القدم اليمنى ليحسم المباراة بسرعة ويكسب الميدالية الذهبية، بيد أن الجميع تفاجأ بمحمد رشوان يرفض تنفيذ تعليمات مدربه ولم يستغل إصابة خصمه مما تسبب بخسارته للميدالية الذهبية والاكتفاء بالميدالية الفضية، وعندما سألت وسائل الإعلام محمد رشوان لماذا فعل هذا؟ أجابهم: "منعني ديني من استغلال إصابة ياماشيتا في مباراة النهائي وفضلت الخسارة عن إلحاق الضرر به".
خسر محمد رشوان الميدالية الذهبية، ولكنه حظي بميدالية الروح الرياضية من منظمة اليونسكو والتي تقدر روح الألعاب الأولمبية بغض النظر عن النتائج، وتم منحه جائزة "بيار دي كوبرتان" باعث الألعاب الأولمبية الحديثة الدولية لعام 1984م، وجائزة اللعب النظيف عام 1985م، وجائزة أحسن خلق رياضي في العالم من اللجنة الأولمبية الدولية للعدل من فرنسا، وغيرها. ومن يدري لو فاز محمد رشوان في تلك المباراة باستغلال نقطة ضعف خصمه الياباني فلعله كان سيكسب الميدالية الذهبية لكن سينساه الناس أو يبقى اسمه مرتبطاً بسلوك غير رياضي.. ورغم أن محمد رشوان لم يدرِ بخلده وقت اتخذ ذلك القرار أن قصته ستخلد وموقفه سيبقى يروى كمثال رائع عن سمو الأخلاق الرياضية، إلا أن هذه هي النتيجة الطبيعية لكل من سار على الدرب السوي سواء وجدها في الدنيا أو عند الله عزوجل في الآخرة.
في الواقع، ليس كل فوز نجاحاً وليست كل خسارة فشلاً، فكم من مدير فاز في تحقيق الأرباح والمستهدفات بالغش والخداع وبتدمير حقوق موظفيه وسمعة المنظمة، وكم من مدير خسر مبيعات أو لم يحقق مستهدفات ولكنه نجح في الحفاظ على مبادىء المنظمة وسمعتها وموظفيها ومصالحها على المدى البعيد.
باختصار، نحتاج لإعادة تعريف النجاح في حياتنا المهنية ومناهجنا الأكاديمية، فلا ينبغي أن نجعل تحقيق الأرقام والأضواء والإنجازات مهما كلف الثمن ولو على حساب المبادىء وحياة الآخرين هو الطريقة التي نحتفي بها، بل نحتاج أن نؤكد أن النجاح الحقيقي هو ذلك النجاح بالطريقة السوية وأن أساليب الغش والخداع والظلم مصيرها النهائي هو الفشل مهما بدت بداياتها جميلة، وأختم بقول الله عزوجل: ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ َمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).




http://www.alriyadh.com/2052277]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]