عرضت الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية سؤالاً، للإجابة عنه في أحد المؤتمرات الثقافية العربية، ونصّ السؤال كما يلي:
«ماذا يجب أن تعمله المدرسة، للتّغلب على النزعة الأدبية والكلامية، المنتشرة في البلاد العربية، ولإشاعة روح التفكير العلمي، بين شباب العرب»؟
وتبادر في الحال إلى الذهن سؤال، يقول: إلامَ يرمي هذا السؤال؟
أيرمي إلى قتل النزعة الأدبية في الشباب، ليُصبحوا جميعاً عُلَماء ورجال أعمال؟
وهل هناك تعارض بين الأدب والعِلم؛ فلا يجوز أن يكون للأديب من العلم ما يكسبه من الضبط والدقّة والوضوح، وأن يكون للعالِم من الأدب ما يقيه المادية والثقل والجفاف؟
فمن المعروف أن الأدب للنفس، والعلم للناس.. الأدب مواطن، والعلم لا وطن له. الأدب روح في الجسم، ودم في العروق، يُكوّن شخصية الفرد، فيحيا مُستقلّاً بنفسه، ويُبرز شخصية الشعب، فيحيا مُميّزاً بأفراده.
الأدب لُغة وذوق وبيئة وتاريخ وتقاليد، والعلم شيء غير أولئك كلّه.
فإذا جاز طبعاً أن نأخذ عن غيرنا ما يُكمل نقصنا في العلم، فلا يجوز قطعاً أن نرجع إلى هذا الغير، فيما يُمثّل أنفسنا من الأدب.
إن من أشدّ البلايا على الأدب الحاضر بليّتين: العامية في اللّغة، والعلمية في الأسلوب:
أما العامية في اللّغة، فلو كان الغرض منها إمداد الفصحى بما تزخر به لُغة العامّة، من مصطلحات الحضارة وألفاظ الحياة لهان الأمر، ولكن الغرض الذي ترمي إليه الثقافة الضحلة والدراسة السهلة، هي أن يكتب الكاتب كما يشاء، لا يتقيّد بقاعدة من نحو، ولا قياس من صرف، ولا نظام من بلاغة.
وأما العلمية في الأسلوب، فلو كان الغرض منها اقتباس الروح العلمية في تحديد الفكرة، وتصحيح القياس، وتدقيق العبارة، ونبذ الفُضول، وتوخّي الفائدة، لهان الأمر كذلك، ولكنهم يقصدون بالعلمية بخس القيمة الجمالية للأسلوب، وخفض المستوى الرفيع للبلاغة، فيكون الكلام جارياً على نهج العلماء في تأدية المعنى المُراد في اللفظ السهل، أو على سُنن التُجّار في ضغط المعنى المُحدّد في اللفظ المُختزَل، ولا عليهم بعد ذلك من الروح الذي يبعث الحياة في المعاني فتؤثّر، ولا من الفنّ الذي يُلقي الألوان على الصوَر فتُمتّع، ولا من الشعور الذي يُشيع الهمس في الجُمل فتوحي!
إن الأسلوب العلمي أسلوب من أساليب التعبير، لا هو كلّها، ولا هو خيرها، وإنما هو أسلوب تقتضيه حال، كما تقتضي غيره أحوال؛ فالسعي لتغليبه على غيره من الأساليب مخالفة للطبيعة، ومجافاة للطباع.
والمعروف في تاريخ الآداب، أن المذاهب الأدبية هي التي تتسابق في الشيوع، وتتنافس على البقاء، أما الأسلوب العلمي فله مجال آخر، ورجال أُخر؛ مجاله العلوم، ورجاله العلماء، والعلوم والعلماء يتّخذون من اللّغة أداة ضرورية للفهم والإفهام، لا وسيلة كمالية للجَمال والإلهام.
فأساليبهم في فنّ الكلام أشبه بالصوَر الجغرافية، والخطوط البيانية في الرسم؛ يُقصد بها البيان لا الزخرف، ويُراد منها الحقّ لا الجَمال.
إن الثقافة العامة للشاب، إنما توزَن بالقِدر الذي يُحصّله من ثقافة لُغته، فإذا استطاع بعد المدرسة أن يقرأ فيفهم، ويكتب فيُحسن، استطاع أن يجد السبيل إلى كلّ علم، والدليل إلى كلّ غاية.
أمامكم الساسة والقادة، والزعماء والعلماء، والمُصلحون في كلّ أُمّة؛ هل تُغني عنهم علومهم وعقولهم عند الناس شيئاً، إذا لم يملكوا ناصية البيان، فيُقنعوا إذا كتبوا، ويؤثّروا إذا خطبوا؟
إن العالَم من غير أدب معمل ساكن، وإن الزعيم من غير بيان تمثال صامت، وإن المُصلح من غير بلاغ مصباح مُطفأ!




http://www.alriyadh.com/2052449]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]