يقول أبو القاسم الشابي «من أغاني الرعاة»
أقبل الصبح يغني للحياة الناعسة
والربا تحلم في ظل الغصون المائسة
والصبا ترقص أوراق الزهور اليابسة
وتهادى النور في تلك الفجاج الدامسة
أقبل الصبح جميلاً يملأ الأفق بهاه
فتمطى الزهر والطير وأمواج المياه
قد أفاق العالم الحي وغنى للحياة
فأفيقي يا خرافي وهلمي يا شياه
واتبعيني يا خرافي بين أسراب الطيور
واملئي الوادي ثغاءً ومراحا وحبور
واسمعي همس السواقي وانشقي عطر الزهور
وانظري الوادي يغشيه الظلام المستنير
لك في الغابات مرعاك ومسعاك الجميل
ولي الإنشاد والعزف إلى وقت الأصيل
فإذا طالت ظلال الكلأ الغض الضئيل
فهلمي نرجع المسعى إلى الحي النبيل
يشير مصطلح الانسجام إلى مجموعة من العلاقات التي تربط معاني الأقوال في الخطاب، أو معاني الجمل في النص، وبصفة عامة يصبح النص متماسكاً إذا وجدت سلسلة من الجمل تطور الفكرة الأساسية. ومن خلال مظاهر الانسجام التي أشار إليها اللسانيون المحدثون، يمكن أن نتلمس مظاهر الانسجام في قصيدة الشابي «من أغاني الرعاة»، إذ تجسد الانسجام في هذه القصيدة عبر ما يلي:
أ- الوحدة الموضوعية: فالقصيدة كلها تتمحور حول موضوع واحد؛ هو مناجاة الطبيعة الصامتة والمتحركة، والتأمل في مظاهرها، كما سيطرت على الشاعر مشاعر البهجة والفرح والسرور، فضلاً عن مرور التجربة الذاتية للشاعر؛ بحسها الرقيق، وشعورها المرهف وعاطفتها الصادقة. وبذلك تجنب الشاعر التناقض والانتقال غير المبرر من فكرة لأخرى لا تربطها بها أية صلة منطقية. وهذا هو الحد الأدنى - كما يرى فان دايك - لترابط القضايا التي تعبر عنها جملها المتتالية، بمعنى ارتباطها بموضوع التخاطب نفسه. ب - التدرج: أي أن يتوافر النص على نوع من التدرج في العرض، أو السرد، أو التحليل، فيحس القارئ أن للنص مساراً معيناً، ويعد ذلك الترتيب البعدي للوقائع مظهراً مهماً من مظاهر انسجام الخطاب. فالقصيدة تتسم بالتدرج والتسلسل في عرض الأفكار، حيث بدأ الشاعر بوصف إقبال الصباح وأثر إقباله على الطبيعة (الصبح يغني معلناً ولادة يوم جديد / الربى ما زالت تغط في نومها/ الصبا تداعب أوراق الأزهار اليابسة لتعيد لها الحياة / والنور يتهادى ليبدد الظلمة / عناصر الطبيعة تحتفي بهذا الصباح / ؛ الزهور، الطيور، أمواج المياه). كل ذلك ينبئ بأن الحياة قد أخذت تدب في هذا الكون من جديد؛ منتشية بالسعادة والحبور. وهكذا تمضي القصيدة بتدرج متوازن، فلا يحس المتلقي أن ثمة خللاً أو اضطراباً في تسلسل الأفكار وترتيبها. ج - نوع النص؛ إذ لا يمكننا تأويل ملفوظ، إن كنا نجهل إلى أي نوع ينتمي، فبمجرد سماعنا الكلمات الأولى، يمكن أن نحدد إلى أي نوع ينتمي هذا الكلام بل ربما توقعنا طوله وبنيته ونهايته.
وفي هذا الصدد لابد من التأكيد على أن المتلقي له دور كبير وجوهري في تفسير النص لا يقل عن دور منتجه أو مبدعه؛ لأنه عنده يَحدُث المعنى، ويربط العناصر البنائية للنص ضمن علاقات جدلية ويكشف عن دلالات في عملية التركيب والتفكيك.
فالنص الذي بين أيدينا، نص أدبي، ومن ثم فهو نص شعري، عني به صاحبه بالجانب اللغوي الذي ينسجم مع النص الشعري، بما يكشفه من تجربة فنية وشعورية. فالأفكار واضحة عميقة مرتبة، والألفاظ سهلة معبرة وموحية، والصور مفعمة بالحركة والحياة واللون والصوت.. والعاطفة جياشة، والموسيقى راقصة توائم حالة الفرح والسرور التي تتبدى في الطبيعة، وهذا ما جعل لغة القصيدة بعيدة عن اللغة النثرية، وبالتالي فإن نوع النص يحدد شكله، فالشكل ليس ذا وظيفة تواصلية فحسب، بل له وظيفة جمالية أيضاً.
واللغة أياً كان نوعها فإن المؤكد أن معناها ومبناها ناتجان عن التفاعل بين النص والقارئ، وليس هدف القراءة فهم الكلمات المستخدمة، بل يتجاوز ذلك إلى عملية تبادلية للفكر المتجسد في المادة المقروءة، وهو ما يستوجب كون القارئ ملماً بعدد من المعارف المتخصصة والعامة التي تعينه على تحليل النص
وخلاصة القول: إن الانسجام يعتمد على عمليات ضمنية غير ظاهرة، يُوظِّفُها المتلقي لقراءة النص وبناء انسجامه؛ مثل: السياق، ومبدأ التشابه، والانسجام في النص ذو طبيعة مركبة تتجاوز الوحدة العضوية بعناصرها التقليدية المعروفة إلى نطاق أوسع وأرحب، قد يدخل فيها العلاقات الدلالية بين وحدات النص. وهو ما يسهم في تحقيق تماسك النص على مستوى البنية العميقة.




http://www.alriyadh.com/2052443]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]