إن العلاقة بين ماضي الشعر وحاضره علاقة وطيدة تفرضها طبيعة الانتماء لأرض واحدة ولغة واحدة ومشاعر واحدة تلك الوحدة التي عبّر عنها الشعر باتساق نظامه الفنّي من خلال النظام الذي التزم به فيما سُمّي قديماً بعمود الشعر وما فرضه من سُنّةٍ متبعة لدى الشعراء القدامى فكان لزاماً على الشاعر ألا يحيد عن ذلك النظام؛ وإلّا عُدّ ذلك خرقاً للمألوف، تلك العلاقة توثقت منذ العصر الجاهلي الذي خلد لنا المعلقات التي تمثل قمة التطور الفني والبناء الهيكلي الذي وصلت إليه القصيدة العربية من حيث البناء الشكلي والمضموني، فعلى صعيد الهيكل كان التزام الشاعر بالسير وفقاً لتدرج البنائي لقصيدته أمراً ثابتاً وبديهياً فلا بد من الاستهلال بالوقفة الطللية مروراً بوصف الرحلة وذكر الأحبة والديار والاستذكار والتذكر للماضي وصولاً إلى وصف أحداث الرحلة وانتهاء بالغرض المنشود من فخر أو مديح أو هجاء.. إلخ حتى أصبحت تلك النمطية إرثاً يحافظ على التقليد مثلما كان مجالاً للتواصل الثقافي عبر الشغل المتوارث الذي لم يكن ليقف عند حد التقليد بل أفسح المجال للتجديد في النمطية والأسلوب ذلك أن طبيعة الحياة المتغيرة فرضت الخروج على التقليد؛ لأن الحياة حركة والشعر تعبير عن حركة الحياة فكان لا بد للشعر أن يواكب حركة الحياة من خلال تغيير يشمل الشكل والمضمون على حد سواء، ومع بداية القرن التاسع عشر بدأت بذور التغيير تنتج ثمارها نتيجة الاحتكاك بالغرب؛ إذ بدأت البعثات العلمية تكثر إضافة إلى ازدهار الطباعة فطبعت الدواوين الشعرية فكانت الحياة الصناعية وما أفرزته من منجزات علمية قد حققت للأدب حضوراً أكثر انتشاراً على الساحة الثقافية فثار الأدباء على أدبهم وطلبوا الانعتاق من أسر القديم متطلعين إلى لغة الحياة المعاصرة، ولعل أدل من نهج تلك السبيل محمود سامي البارودي الذي عارض الشعر القديم متواصلاً معه من حيث الديباجة والقوة اللفظية إلّا أنه لم يمح ذاته التي عبّر عنها في إطار محاكاته للأجداد فارضاً أحاسيس وموقعاً بصمته اللفظية وسمته الأسلوبية معبراً بذلك عما يجيش في نفسه من حقائق العصر، واستطاع أن يبقي على الصلة الوثيقة بين ماضي الشعر بما حفل به من جزالة اللفظة والفصاحة والحاضر الذي يعيشه من اختيار موضوعات من محيط الشاعر وتجاربه الشخصية فأعاد للشعر القديم حياته فتألقت اللغة الشعرية بفضل ما قيد لها من فحولة البارودي الذي مثل تيار التجديد في عصر النهضة في مصر وتبعه شعراء من العراق والشام كالزهاوي والرصافي والزركلي وغيرهم.
وتجاوزت تلك الحركة الوطن العربي إلى أدباء المهجر الذين حاولوا تجديد الشعر، وقد مكنتهم الرحلة وحالة الاغتراب من أن يأخذوا من معين الآخر ما يمكنهم من النهوض بالشعر العربي القديم ويصلوا به حاضرهم فراحوا يصدرون الصحف والمجلات وينشرون الدواوين الشعرية حيث ظهر في الجنوب العصبة الأندلسية ومن شعرائها إلياس فرحات، وفي الشمال تأسست الرابطة القلمية ومن شعرائها جبران خليل جبران الذي كان يدعو إلى الانعتاق من أسر اللغة المتوارثة متأثراً بالرومانسية وما تضمنته، وما فيها من شطحات خيال ورؤى حالمة تتأمل الوجود والطبيعة. وقد عرف مصطلح الوحدة العضوية في القصيدة العربية لدى شعراء الرابطة القلمية الذين تأثروا بالأدب الغربي فكانوا مجددين في هذا الإطار؛ فحاولوا أن يترسموا في قصيدتهم تجربة حياة معيشة تكون تعبيراً عن نبض العصر وهي تترابط بين أجزائها من غير انفصال ولا انقطاع لتكون القصيدة وحدة عضوية ولوحة منسجمة الألوان متسقة الأشكال لا يمكن تصورها إلاّ في إطارها الكلي. وهو ما يمنح القصيدة جمالها وقوتها وعلى الرغم من محاولات التجديد فإن جميع حركات التجديد بقيت مرتكزة على أسس الماضي، بل إن التطور كان تمكيناً للقديم من حيث امتداده وعلاقته بالحاضر، فواقع الشعر العربي في تطوره وتجديده بقي محافظاً على الهوية التراثية للأمة والشخصية المنفردة؛ لأن الشعر لم يتجاوز اللغة
العربية التي هي الوعاء الذي يستوعب جميع التجارب الأدبية، وهي الرابطة التي توثق الصلة بين ماضي الشعر وحاضره. فقد ظلت حركات التجديد مستهدية بالتراث وأصوله التي ترتد إلى الماضي وهذه العلاقة الوثيقة بين ماضي الشعر وحاضره هي ما حفظ للشعر العربي كيانه على تعاقب العصور.




http://www.alriyadh.com/2059930]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]