ترشيد الحداثة تمثل في توجهين أحدهما ركز على تعزيز الهوية الفردية من خلال تبني توجهات بصرية ذات فرادة لا تتكرر والآخر ظهر بوضوح بعد ذلك على مستوى الهوية العامة من خلال العودة إلى الجذور المعمارية التاريخية وتطور عمارة ذات طراز تقليدي جديد..
يتفق الكثير على أن صدمة الحداثة في عمارة الرياض بدأت في مطلع الخمسينات، كانت تلك الصدمة مبهرة ومؤثرة على الصورة الذهنية وتغلغلت في أذهان الناس وعملت على تغيير أنماط حياتهم والأهم من ذلك أعادت تشكيل ذائقتهم الجمالية وقدمت لهم خيارات جديدة لم يعهدها أسلافهم. الحداثة في جوهرها تعمل على جب ما قبلها، وهذا ما حاولت أن تقدمه حداثة الرياض خصوصاً في مجال العمارة، كونها لم تستطع أن تغير من سلوك الناس وتقاليدهم الاجتماعية بشكل كامل ومباشر وإن كان التغيير حدث بعد ذلك بشكل تدريجي في العقود اللاحقة، ومع ذلك يجب أن نذكر أن صدمة الحداثة أوجدت ازدواجية بين القديم والحديث وشكلت ثغرة معمارية واجتماعية توسعت باضطراد بعد ذلك حولت الرياض إلى مدينة حديثة بشكل كامل، على أن هذه الحداثة ظلت بعيدة عن البحث والدراسة ومعزولة على مستوى التحليل الاجتماعي والثقافي والقرارات التي أدت إليها.
ما يشد كثيراً من الناس هو المنتج المادي العمراني للحداثة أكثر من الأسباب التي ساهمت في إنتاج تلك العمارة، لذلك قمت خلال الأيام الفائتة بجولة في رياض الحداثة خصوصاً حي الملز الذي يعتبر مسرح التحول نحو العمارة الحديثة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. البعض يسمي عمارة تلك الفترة بـ"عمارة الزمن الجميل"، رغم أنها ساهمت في إحداث تغيير شرس لم يضع في اعتباره الموروث الضخم الذي تراكم لفترة طويلة في الرياض، ما كنت أبحث عنه هو تلك المحاولات التي سعت إلى ترشيد الحداثة وخلق صورة جمالية جديدة تتجاوز تلك الصور المتماثلة التي قدمتها الحداثة حول العالم، توقفت عند توجه بصري بدأ يتطور في نهاية الستينات تقريباً هو "آرت ديكو" Art-Deco وهو توجه جمالي تعويضي يحاول أن يوظف التشكيل القائم على استخدام الكتل والتشكيلات الخرسانية مكان الزخرفة، وبدلاً من أن تكون المباني ذات هوية بصرية متماثلة عمل هذا التوجه على إعطاء كل مبنى هويته الخاصة. أحد المباني التي وجدت أنها تعبر عن تحول عميق في الصورة الذهنية العمرانية لسكان الرياض بعد مرورهم بصدمة الحداثة مبنى في شارع الناصرية مقابل مجمع التلفزيون، المبنى عبارة عن عمارة سكنية تظهر فيه الحليات الخرسانية على شكل خطوط متكسرة والأعمدة بصورة إيقاعية مرة تكون مجردة وأخرى تظهر على شكل عمود متفرع وكأن له يدين تحمل السقف.
توقفت عند هذا المبنى كثيراً لأنه لا يعبر عن قرار معماري فقط بل يشير إلى تحول عميق في الموقف من الحداثة وتطور توجه جديد يحاول أن يقدم الهوية الفردية في قالب جديد. التغير الاجتماعي الذي حدث منذ الخمسينات وحتى نهاية الستينات أحدث تحولاً نحو الفردية بعد أن فكك الهوية الاجتماعية التي كان عليها مجتمع الرياض في السابق لكن عمارة الحداثة لم تستطع أن تعبر عن هذا التحول الجديد وكان من الضروري أن تتحول العمارة لتعكس هذا التحول المتنامي نحو الفردية. تعود جذور عمارة الحداثة إلى تحولات تقنية واجتماعية في الغرب خصوصاً أوروبا وأطلق "الطراز العالمي" عام 1932م عن طريق المعماريان "جروبيوس وهيتشكوك" لكنها عمارة لم تصمد بعد ذلك، فمع النصف الثاني من القرن العشرين بدأت تتراجع، وهي الفترة نفسها التي بدأت تتسلل إلى الرياض، هذا يعني أن عمارة الحداثة وصلت الرياض وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، لكنها أحدثت تغييراً شاملاً لم يتراجع حتى اليوم. على أن هناك فرقاً بين التأثر بالحداثة من الناحية المادية وبين تأثيرها على المستوى الاجتماعي والسلوكي، وما حدث في الرياض هو مجموعة من المراجعات بعد صدمة الحداثة وتأثير تلك الصدمة على الذائقة البصرية العامة وتمثلت تلك المراجعات في الرغبة للتعامل مع عمارة الحداثة بأسلوب مختلف وهو ما حدث بشكل شامل في السبعينات من القرن الماضي.
ترشيد الحداثة تمثل في توجهين أحدهما ركز على تعزيز الهوية الفردية من خلال تبني توجهات بصرية ذات فرادة لا تتكرر والآخر ظهر بوضوح بعد ذلك على مستوى الهوية العامة من خلال العودة إلى الجذور المعمارية التاريخية وتطور عمارة ذات طراز تقليدي جديد. لو حاولنا تطبيق منهجية التركيب والبناء، سوف نلاحظ أن الحداثة فككت المجتمع التقليدي على مستوى التعامل مع العمارة بشكل كامل، وإن كانت لم تنجح كثيراً في تفكيك القيم والتقاليد العامة بشكل مباشر. الفردية التي نشأت وتطورت كانت تحمل في جوهرها مجموعة من القيم التي يؤمن بها الجميع وساهمت بشكل واضح ولفترة طويلة في استعادة نمط الحياة التقليدي على المستوى الوظيفي وإن لم تنجح على المستوى البصري فظل التوجه الفردي البصري طاغياً ومهيمناً على أغلب المنتج المعماري. لن أدعي هنا أن هذا التحليل يكفي لفهم ما حدث في الرياض في الثلاثة عقود الأولى للحداثة لكنه مؤشر يؤكد على أن ما حدث يحتاج إلى دراسة عميقة ومتأنية لرصد الإزاحات التي حدثت لمنظومة التقاليد ومظاهرها الاجتماعية والمادية.




http://www.alriyadh.com/2059945]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]