لا يخفى أن الإنسان يَحسُنُ منه التيسير على الآخرين، ويُستقبحُ أن يعسِّر عليهم، لكن قد يخفى على كثيرين أن لنفسه أيضاً الحقَّ في التيسير، وعدم التعسير عليها، وأنه ينبغي له أن يُفكِّرَ فيما يأتي وما يذر بمعيارٍ يضمن له عدم التعسير على نفسه..
لهذه الملة الحنيفية سماتٌ وخصائصُ اختصت بها، وتحمل هذه الخصائص معاني سامية يتحقق بها ما أراده الله تعالى لها من البقاء، وعدم انتساخه بأيِّ ملةٍ، وتلائم ما اختصت به من عموم الخطاب بها في الأوقات والأشخاص والأمكنة، ومن تلك السمات التيسير، كما يدل عليه وصفها بالسمحة، ومبعث نبيها عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين، والتيسير مصاحب لها من كل الجهات؛ فإن الله تعالى قد تفضل على أهلها بأن يسَّرَ عليهم أمورهم، وإذا كلفهم بفريضةٍ شَرَعَ لهم فيها من التفاصيل ما يجعلها ميسورة، كما قال تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، ولم يحمل عليهم من الإصر ما حمله على من قبلهم، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج، فعلى المسلم أن يحتفي بهذه الخصوصية، وأن يعلم أن تحلِّيَهُ بها تجسيدٌ لواحدةٍ من سماتِ ملَّته، فيحمل نفسه على خصلة التيسير أينما حلَّ؛ ليأخذ بنصيبه من سماحة ملَّته، وكلما راودته نفسه على الجنوح إلى التعسير في أيِّ شيءٍ استشعر أن ذلك خلاف الجادَّة، ولم يتمادَ في ذلك، ولي مع أهمية التيسير وقفات:
الأولى: إذا كان التيسير أمراً مشروعاً مأموراً به، وخصلةً محمودةً، فلا بد أنه مضبوطٌ بقواعد تمنع التَّشهي فيه، وتَـحُولُ دون التلبيس في شأنه، والـمُراعى فيه ما يُقرِّرُ الشرع والنظام والعرف أنه تيسيرٌ، فليس من التيسير التهاون بالتكاليف الشرعية، والأنظمة المرعية التماساً لما تركن إليه النفس، ولا الاسترخاء في القيام بالمسؤوليات، والتلاعب بالأمانات، ولا في التضحية بالمصالح العامة سواء كانت أمنيةً أو ماديةً، أو غيرهما مراعاةً لمصلحةٍ جزئيةٍ خاصةٍ، بل التيسير أن تُراعى ضوابط الشرع والنظام كما هي، وأن يكون الإنسان معترفاً بوفاء القواعد الشرعية، واللوائح النظامية بما يضمن مصالح الناس في معادهم ومعاشهم، والمتكلم في الأحكام الشرعية، أو العامل بها إذا أخلَّ بالتيسير دخل في التعسير وصار كلامه وعمله بدعةً وهوى، وكان في دائرة الخطر المتمثل في محاولة الاستدراك على الشرع، ومن أخطر أساليب التعسير على الناس في دينهم أن يتصدى الجاهل، وصاحب الأغراض الدنيوية للفتوى والكلام في الشؤون الدينية، فيُوقعُ عامة الناس في حيرةٍ من أمرهم.
الثانية: لا يخفى أن الإنسان يَحسُنُ منه التيسير على الآخرين، ويُستقبحُ أن يعسِّر عليهم، لكن قد يخفى على كثيرين أن لنفسه أيضاً الحقَّ في التيسير، وعدم التعسير عليها، وأنه ينبغي له أن يُفكِّرَ فيما يأتي وما يذر بمعيارٍ يضمن له عدم التعسير على نفسه، والتيسيرُ على النفس يكون بعدم حملها على تعاطي ما هي في غنىً عنه، والانكفاف عن كل ما هو من شأنه التعسير عليها، وللتعسير على النفس مظاهر، منها التشاؤم والمبالغة في النظرة إلى الحياة بصورةٍ سلبيةٍ، وسوء التقديرات التي لا تُبنى على أساسٍ منطقي، وهذا يؤول إلى أن يعيش الإنسان في نكدٍ وشقاءٍ مرجعهما ما جَلَبَهُ على نفسه، وقد يتفاقم ذلك حتى يصل به إلى أن يُسيء الظنَّ بربه، فيناله من السوء ما ظنَّهُ، والله تعالى يقول كما في الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ)، ومن التعسير على النفس الزهدُ في العافية، والتوقُ إلى البلاء وذلك بمغامرة الإنسان بزجِّ نفسه في التبعات الخطيرة التي يعي العقلاء أن الخائض فيها ملومٌ مطلقاً، وذلك كالإقدام على المخالفات الشنيعة كالفساد والمخدرات والتخريب والإرهاب، فلو علم من يُقدمُ على مثل هذه الجرائم ما جَلَبَ على نفسه من العسر لعلم أنها شرورٌ محضةٌ لا عبرة بما يَتخيل فيها من الجدوى، ومن الغبن أن يلجأ الإنسان إلى شيءٍ من هذه المخالفات ليحصِّل يُسراً مؤقتاً تكميلياً لا ينقصه شيءٌ لو تركه، ويفقد جراء ذلك يُسراً ضرورياً يتعلق بدينه أو نفسه أو ماله أو عقله أو عرضه.
الثالثة: نعيش هنا في دولتنا المباركة المملكة العربية السعودية في جوِّ يُسرٍ بحمد الله تعالى، وحسن توفيقه، وها نحن في ظلِّ رؤية سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله تعالى، نرى ما يُقرُّ العين من تيسُّرِ الإجراءات والمعاملات والخدمات بمختلف مستوياتها، ولم يعد الحصول على الخدمة التي يكفلها النظام هاجساً يُؤرِّقُ أحداً منا، فعلى كل موظفٍ تُسندُ له خدمةٌ من هذه الخدمات أن لا يُزايد على الأنظمة في تطبيق الضوابط والشروط والآليات في التعامل، فهذه المزايدة تحمل في طيّاتها حرماناً للفرد مما كفله له النظام من التمتع بحقوقه بكل انسيابيةٍ ويسرٍ، كما أن فيها تعسيراً قد تتعسَّرُ بسببه أمورُ من عسَّرَ على الآخرين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، ومن يتعاطى هذا التعقيد يصير مُفتاتاً على النظام، متناسياً أنه مكفيٌّ ما يتعلق بالتنظيم والتدبير، وإنما عليه تنفيذ ما أُنيطَ به، لا أقلَّ ولا أكثر.




http://www.alriyadh.com/2060843]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]