يمكن أن يصدر عني قول خاطئ دون أن أكون كاذبًا، لكن لإتيان الكذب، ينبغي إذن أن أكون خاطئاً بكيفية إرادية، وأن أكون بالتالي على معرفة بالحقيقة قبل كل شيء، لهذا السبب، يفتن الكذب الكاذب نفسه، ذلك أنه بتموقعه في الحد الفاصل بين الحقيقي والخاطئ، يعطي الكاذب وهم السيطرة على اللغة..
أسوأ الكذب ما اختلط بحقيقة، وتغطى بمبادئ ليتم تمريره وتصديقه.. وكم نحن مخدوعون نضعف أحياناً بشأن تصديق كثير من الأمور التي تتعطل عقولنا عن وعيها وتبيانها مع زخم الشك داخلنا.. يقول جورج أورويل: "إننا جميعاً لدينا القدرة على تصديق أمور نعلم أنها كاذبة، ثم عندما يثبت خطؤنا في النهاية، نقوم بليّ الحقائق لكي نبين أننا على حق".
قال: متى تتوقف كثير من تلك الوسائل والمصادر عن الكذب.. قلت: متى ما انتهى المتلقون عن التصديق.. لذلك لن يتوقف كثيراً عن الكذب.. ويقال: "الكذب هو أساس كل الأفعال السيئة".. وقلت: لن يمر يوم إلا وتواجه كذبة قد تصدمك إن لاحظتها، وقد تطوي فهمك إن تجاهلتها.. قال: حتى لو كنت عالماً، قلت: علمك الذي حبسته في قناعاتك القديمة قتلت وعيك بما يجري حقيقة.. فكذبوا عليك ولم ينفعك.
"في حالات كثيرة يتفاجأ المرسلون بتلقٍ واسعٍ من التصديق بين الجمهور، لم يكونوا يتوقعونها، وهذا بحد ذاته إغراء لا يقاوم".. من هنا انطلقت سيول من المواد المرسلة عبر وسائل إعلامية وتواصلية ومنابر ومجالس مختلفة فلعبت دوراً هائلاً في تحريك رواكد النفوس، أو تجميد متحركها.
عند اهتزاز العقول تتلبس الأوهام بها، وتبدو كل حقيقة تطرح هي خيال، وكل كذب هو واقع.. فيكذب أحدهم كي يتكلم فقط.. وعند تتأرجح القلوب تتشوه البصائر.. فلا يكاد أحدهم يدرك التفريق بين الصدق والكذب فكل ما حوله يتدفق بانسياب لا يشعر به.. يجعله متأخراً عن استيعاب ما يأتيه.
قد يكون من الصعب أن نصل إلى حقائق الأمور.. لكننا نجعل من السهل أن نستسلم لأغطية تحجب أبصارنا عن التثبت.. في الإعلام مثلاً مهما بلغ مستوى المتابعة الإعلامية، فلن ينجو أحدهم من تصديق كذبة.
حين تأملت حسابات وسائل التواصل لبعضهم من مثقفين.. ومفكرين.. وفلاسفة.. ومنظّرين.. وكتّاب وأصحاب رأي.. وجدت أن تلقفهم للكذب كالبسطاء.. يمر عليهم الأمر، ويتجاوزهم المحتوى، وتخدعهم المواد بسهولة فلا يدركون أنهم مخدوعون.. حتى بصيرتهم الواعية تعطلت مع ما تقذفه الوسائل الحديثة وقبلها التقليدية سواء الإعلامية أو الاتصالية أو الاجتماعية.
وتعرت أفهام بعضهم حين انساقوا بالتمرير لما يأتيهم دون تدبر، وتمعن، ودراية لمضمون، وشكل، ونتائج ما يمررون.. هنا، أدركت تماماً أنهم قللوا ورققوا معايير القبول والأخذ لديهم بسبب الثقل والكم الاتصالي الهائل الذي يموج بين أصابعهم وسط أعينهم وعلى قلوبهم.
"الكذب ليس ما هو خاطئ فقط. بالفعل، يمكن أن يصدر عني قول خاطئ دون أن أكون كاذبًا، لكن لإتيان الكذب، ينبغي إذن أن أكون خاطئاً بكيفية إرادية، وأن أكون بالتالي على معرفة بالحقيقة قبل كل شيء، لهذا السبب، يفتن الكذب الكاذب نفسه، ذلك أنه بتموقعه في الحد الفاصل بين الحقيقي والخاطئ، يعطي الكاذب وهم السيطرة على اللغة. صحيح أن الكذب يتطلب قدرات معينة، لا مهارة الخادع فقط، بل بصفة خاصة القدرات الضرورية لقول وتبليغ ما هو حقيقي".
"حقيقة أن النزاهة ليست مرادفة للتعنت، بل هي بالأحرى مزيج ديني وأخلاقي من غذاء الصدق (تجاه الذات) والكرم (تجاه الغير) والدقة (تجاه الوقائع). وحينذاك، ألا يكون العيش الآخذ بالحقيقة شكلًا من النزاهة والتصرف بشرف تجاه الآخرين وتجاه الذات؟ للتأمل".
ويبقى القول: اليوم حالة الكذب المخلوط في وسائل ساحرة، وبأساليب خدّاعة، تسيطر علينا وتفرض وصايتها على أفهامنا مهما كان وعينا وعلمنا وثقافتنا.. فالكثير سقط سهواً أو قصداً في مصائد التأثر، وكبّلته حبائل الزيف، ولم يصمد إلا أصحاب اليقين والتثبت.




http://www.alriyadh.com/2063665]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]