عندما كنا أطفالاً لم نكن نعلم فضل هذا الشهر كما يعلمه الكبار، لكننا كنا نفرح لفرحة العيد، ولأن هذا الشهر يكون فرحة كبرى في قلوب أهالينا فنفرح لهذا الفرح، ولا ننسى أن هناك فطائر السنبوسة وشربة الكويكر وزيارات الأهالي بعدها في مناخ محفوف بالبخور والعود الهندي والجمر المتقدح في الوجار والزل (السجاد) المنثور في كل مكان معلناً تراحيب المطر كما ينطقها أهل أبها..
لم يخطر ببال بشر، ذلك النوع من حس الهاجس المترامي الأطراف بدواخلنا، ونحن نغرد بأول كلمات ننطقها من شفاهنا (أب، أو أم، أو جدة)! فنصدح صدح الطيور المهاجرة في سماء الوطن.
يزداد مذاق حب الوطن عند أولئك الذين ذهب بهم الزمن مع تغاير الأمكنة إلى حدود بعيدة، فيعرف معنى كلمة وطن!
حينما تغادر الوطن وتسير في الطرقات فترى عوالم غريبة لم يعهدها ناظراك من ذي قبل، حينها تعرف معنى الوطن. وحينما تسير ببطاقتك الشخصية فلا يعترف بها أحد ويقذف بها في وجهك لأنها غير مدونة في حاسوبه، حينها تعرف معنى الوطن. حينما تتألف بإبداعك وابتكاراتك وتسبح في بحر من الأمنيات التي قد تتفرد بها عن سواك في تلك البلاد، فيسأل عن هويتك، ثم يزم شفتيه كفوهة قربة يابسة، ولا يعيرك اهتماما، لأنك لا تحمل نفس بطاقته الشخصية، حينها تعرف معنى كلمة وطن! حينما تتجول بين البلاد فتوقفك المنافذ ويُنثر كل شيء في محفظتك وقميصك وملابسك الداخلية والخارجية وعربتك وحتى خصلات شعرك، حينها تعرف معنى الوطن.. حينما يقف شرطي المرور على رأسك فجأة يتساءل عن هويتك وعملك ومن أين أتيت وإلى أي اتجاه تسير، حينها تعرف قيمة الوطن.
وحينما تقف على باب المتحف الوطني بالرياض ولأول وهلة بعد غياب طويل في دهاليز العالم الموحش، تدمع عيناك شوقا ولهفة، لأنك لا تلتقي أيقونات تراثية وخطوطا جغرافية وأشياء من مفردات الحضارة القديمة يمتد أغلبها إلى ما قبل التاريخ، وإلى العصر الحجري، والعصر النحاسي، وحضارة التلمود وحضارة العبَّيد، وشلال لا ينقطع من الثراث البيئي والطبيعي والأنثربولوجي والآركولوجي، كل هذا جيد وفخر وعلم وثقافة واعتزاز؛ لكن ليس لذلك تدمع عيناك وأنت تجلس على عتبات هذا المتحف بجوار شلال الموازي لشلال هذا التاريخ، بل إن هناك ما هو أشد وقعا في النفس من كل ذلك.. ذلك لأنك هنا تلتقي الوطن، تلتقي ذاتك بكل تفاصيلها وبكل تفاصيل شخصيتك لأنك هنا تلتقي الوطن.
فماذا تعني إذا كلمة وطن؟ وهل نفهم مصطلحها؟ وهل نستجوب آفاق عقولنا الرحبة والضيقة في ذات اللحظة عما هو الوطن؟
يمكن أن تكون آلاف الهياكل المتناثرة في قاع الرأس لتطوف عن استدعائها في لحظة خاطفة آمرة!
فلم تكن هذه الخواطر سوى قدح ذهني حينما تماست شرارته مع أول إعلان انبثاق رؤية هلال شهر رمضان فتطوف على سطح الفكر ليالي الترقب في ربى أبها وفي بلاد رفيدة وفي جبال عسير تلك الذرى المعطرة بالشث وزهور اللوز وغابات العرعر والأثل، تلك اللحظات التي تشرئب بها أعناق الأطفال تطاولا نحو جبل ذرة أو جبل شمسان أو قلعة أبو خيال، حيثما يوضع مدفع رمضان ثم يقفون طويلا في انتظار انطلاق شرارته معلنا ثبات الرؤية ليتقافزوا في الساحات رقصا وتهليلا.
لم نكن نحن أطفالا نعلم هذا الفضل الكبير لهذا الشهر كما يعلمه الكبار، لكننا كنا نفرح لفرحة العيد الأول من رمضان ولأن هذا الشهر يكون فرحة كبرى في قلوب أهالينا فنفرح لهذا الفرح، ولا ننسى أن هناك فطائر السنبوسة وشربة الكويكر وزيارات الأهالي بعدها في مناخ محفوف بالبخور والعود الهندي والجمر المتقدح في الوجار والزل (السجاد) المنثور في كل مكان معلنا تراحيب المطر كما ينطقها أهل أبها.
أين تذهب كل هذه الأطياف حينما تقف في بلاد بعيدة تتلمس ساعة يدك علها تذكرك باقتراب موعد الإفطار، فتجدها عنيدة تعاند صفائح مينتها، أو قل ليس عن طيب خاطر تعاند وإنما حقائق الفوارق الزمنية المحتومة بموقعها الجغرافي اذ تمتد ساعات الصيام الى عشرين ساعة في بعض البلدان وثماني عشرة ساعة في بلدان أخرى، وكل ذلك يمكن مروره بسلام مع السعادة بطاعة الله ولكن المهم أنك لا تجد من يصافحك بعد التسليم في قاعة جامعة، ولا تجد من ينقر بابك كتطواف الأصدقاء والعائلات في بلادي، ولا تجد حلقات الذكر والسمر والابتهالات وخشوع صفوف المصلين في كل ساحة من الساحات المكتظة بالمصلين رجالا أو نساء.
ولذلك كنا نؤكد على أنك حينما تقف على باب المتحف الوطني، أو على ذروة من ذرى وطنك، أو في حقل من حقول السنابل الذهبية المنثورة على سفوح الجبال، أو حتى بين كيزان الذرة المشوية أمام بائع الحميص مع شاي الفحم على طريق يموج بالمارة فتذكر أنك في شهر رمضان ورحاب الوطن.. فمرحبا ألف!




http://www.alriyadh.com/2065005]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]