لو راجعنا يومياتنا فيما نسمع أو نشاهد أو نقرأ لوجدنا الكثير من انعدام الرؤية، ولوجدنا كثيراً من الناس يتخبط في أحاديثه، ويتردد في أقواله كل ذلك بسبب عدم وضوح الرؤية. هذا على مستوى الأشخاص والأفراد فما بالك بمواقف جماعات هنا وهناك فقدت الرؤية الحقيقية..
ذات يوم مررت برجل لم أنتبه له جيداً ولكني رأيته يشرب بيده الشمال فمن باب النصح اقتربت منه وأخبرته أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهانا أن نأكل أو أن نشرب باليد اليسرى فلم أنته من كلامي إلا ورأيت ذلك الرجل يرفع عاتقه الأيمن ليتبين لي أنه مقطوع اليد اليمنى.
كم شعرت يومها بالحرج الشديد حتى إني لم أستطع أن أتفوه أو أعتذر بأي كلمة أو أن أبرر ووددت أن الأرض انشقت وابتلعتني.. حين رأيته هادئاً دمث الخلق، كان رده في تعابير ملامحه السمحة.
وحكيت أن "ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺭﺍﺩ رجل كبير ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻡ ﻟﻴﺨﺮﺝ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻨﺰﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻣﺪﻋﻮًﺍ ﻓﻴﻪ، ﺃﺧﺬ ﻋﺼﺎﻩ ﻭأﻣﺴﻚ ﺑﻬﺎ ﻣﻘﻠﻮبة، ﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎﻥ ﺗﻮﺍﺯﻧﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺸﻲ ﻏﻴﺮ ﺳﻠﻴﻢ؛ ﻓﺘﻨﺪّﺭ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ عليه ونعتوه بالمتكبر غير المميز ﻓﺮﺩّ الرجل ﺑﻬﺪﻭﺀ: ﺃﻣﺴﻜﺖ ﻋﺼﺎﻱ ﻣﻘﻠﻮﺑﺔ ﻟﻜﻲ ﻻ ﺗﺘﺴﺦ ﺳﺠﺎﺩﺓ ﻣﻨﺰﻟﻜﻢ الثمينة حين رأيت طين ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ عالقاً ﻓﻲ طرف ﺍﻟﻌﺼﺎ السفلي".
وروى لي أحد طلابي: كنت في المصعَد قاصد قاعة الدراسة، وكان معي صُدفةً في المصعد أحد الأساتذة، سأل عن حالي ودراستي وأخبرته أنني بخير وذكرت له إجابة مفصّلة حيث أشتكي من ضغطي الدراسي مع مزامنة انشغالي بعمل مسائي وارتباطي بطلبات والدي في المنزل. فَلاحظتُ أن الصمت قد عمّ وإذا بهِ يُشيرُ إلى سماعة صغيرة في أذنه وأن السؤال كان موجّه للطرف الآخر على الهاتف. لم أستوعب الصدمة وبقيت في المصعد حتى بعد خروجه.
وذكر لي أحدهم: عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، قرّر والداي أن أذهب معه في زيارة عزاء لصديق الوالد. كنت أعيش في حي بعيد عن منزل العزاء، وقضيت وقت الطريق أستفسر عن ما كان عليّ القول لصاحب الواجب بشأن التعزية. رددت في عقلي "لله ما أخذ وأعطى.. عظم الله أجركم.. اصبر واحتسب" مراراً وتكراراً في الطريق، أثناء المسير، حتّى وصلت لعتبة بيت العزاء، وشاهدت زحاماً كثيفاً فارتبكت ولحظة وصولي مددت يدي لرجل يستقبل المعزين وهو متأثر وتلبّكت وجدت نفسي أقول له "كل عام وأنت بخير" بدلاً من أن أعزيه هذا الموقف الأكثر إحراجاً، ولا أزال أتذكره حتى الآن، وكأنه حصل أمس".
كم من المحرج لنا أن نقع في مثل هذه المواقف، التي ربما تكون فيها تصرفاتنا وانفعالاتنا أسرع من وضوح الصورة لدينا فتسبق ردود الأفعال لدينا التثبت من حقيقة الأمر، ولربما بسبب ذلك نقع في الحرج مع أنفسنا ومع غيرنا.
كان ذلك مثالاً على أننا كثيراً ما نفقد رؤيتنا بعين بصيرة، وتتشتت أمامنا كل معرفتنا ودرايتنا، وتجعلنا بعض المواقف صغاراً في أعيننا التي طالما أكبرنا أنفسنا فيها، تعلمت من ذلك الموقف أن ألسنتنا تسبق تفكيرنا غالباً فنضع أنفسنا في أماكن الجهل بذلك.
في حياتنا كم من القرارات التي افتقدنا فيها إلى وضوح الرؤية، وكم تعجلنا في إصدار أحكامنا على كثير من الأمور التي واجهتنا وتواجهنا في شتى أمور حياتنا، وكم فقدنا توازننا بضعف تبصرنا في الأشياء، وكم أشعرتنا ثقتنا العمياء في أنفسنا أننا نبصر حتى في الظلام. كم من الأشياء خسرناها بتعجلنا في رد فعلنا الخاطئ بسبب الضباب فيما نرى.
ولو راجعنا يومياتنا فيما نسمع أو نشاهد أو نقرأ لوجدنا الكثير من انعدام الرؤية، ولوجدنا كثيراً من الناس يتخبط في أحاديثه، ويتردد في أقواله كل ذلك بسبب عدم وضوح الرؤية. هذا على مستوى الأشخاص والأفراد فما بالك بمواقف جماعات هنا وهناك فقدت الرؤية الحقيقية واختلفت نظراتها نحو الحقيقة الكامنة وتبدلت لديها مواطن الحق والصدق بتضاريس الجهل والتعجل والافتراء. هكذا يصنع انعدام الرؤية انعداماً في التوازن.. وهكذا تصنع الرؤية الحقيقية البينة ثباتاً في الرأي والموقف وفي رد الفعل.
وبقي القول: يجب ألا نبادر بسوء تقدير يقلل من شأن الغير، ولا نستبق ما يحدث برعونة فقد يكون ما يحدث أرقى مما تتصور، وأعمق مما يُظن، فعاقبة ذلك قد تكون مؤلمة.




http://www.alriyadh.com/2065006]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]