لم تعد أوروبا شغلنا الشاغل، وأصبحنا نحن شغلها الشاغل. أمر طبيعي في ظل قوانين المداولة بين الناس والدول والأمم، ولكن انشغالنا لا يعفينا من أن نشتغل على أداء مسؤوليتنا الإنسانية فيما نرى أننا نملك مفاتيحه في سبيل حياة طبيعية غير مبتعدة عن الفطرة السوية، فالحياة المدنية الصرفة والتقنية الخارقة والتكنولوجيا المتطورة تجعل من الإنسان يفكر باتجاه واحد يرتبط بالإنجاز السريع والاتكالية المفرطة والحياة الفارغة من المشاعر والمنزوية عن حياة اليقين بالضعف الإنساني والاحتياج الآدمي والمتفرغة تماماً لحياة الإنجاز التقني والبروز العلمي.
ففي علم اجتماع الجسد تجد من يتعامل مع هذا الجسد من منطلق تقني وتكنولوجي ولا يتعامل معه على أنه جسد مركب من ماديات ومعنويات، وأنه يحمل في تكوينه تجسيدا حقيقيا لمفهوم التراث المادي واللامادي، وأنه مكون اختزل العالم والأكوان وشكل لوحة ربانية وإعجاز لا يشبهه أي إعجاز (وفي أنفسكم أفلا تبصرون). وفي إطار علم اجتماع الجسد تجد أيضا من يتعامل مع هذا الجسد من منطلق فني، فتشكيل جسد الإنسان من انحناءات ومواطن ظل وقوام واستدارة أو حدة هندسية تجعل منه مادة فنية اجتماعية تشكل إحدى مدارس ما يمكن تسميته بالفن الاجتماعي في زاوية ما يتميز به كل نوع –ذكر وأنثى- وما يميز كل عرقية وكل منطقة من صفات جسدية تتمايز بها وتختلف عن غيرها.
تزاحمت الأفكار والتطبيقات حول الإنسان، ونسيت هذه التطبيقات هذا الإنسان، ونسي الإنسان نفسه، وعلى الرغم ما في الفكر الأوروبي من قضايا محورية ثقافية واجتماعية وإنسانية جديرة بالاهتمام والإكبار إلا أننا نجد أن هناك توجها نحو بهيمية إنسانية أنتجتها حضارة بدأت تصل إلى حد اللامبالاة بذاتها الإنسانية، والتفتت إلى المادة في ظل حياة أرهقت الإنسان الموجود داخل كل إنسان، وجعلته يتخبط بين إرادته السوية، وإرادة غيره، غير السوية التي تريد منه أن يكون سلعة في يدها، وأن يصبح منتج يخضع لقواعدها في العرض والطلب في عالم استهلاكي بدأ في استهلاك كل شيء حتى القيم التي ذوبتها سطوة قوة تريد أن تجعل من العالم دمى تحركها كيفما تشاء في عودة إلى مسرح الدمى، ولكن هذه الدمى هو الإنسان نفسه، فالحياة يمكن أن يفسر حاضرها من خلال ماضيها إذا طبقنا عليها بعض مفاهيم المداولة بين الناس وبين الأشياء والابتكارات الفنية أو التقنية.
أوروبا حضارة عظيمة جاءت امتداداً لحضارة إسلامية، والحضارة الإسلامية جاءت امتدادا لحضارات أمم قبلها من فراعنة ويونان وفرس ورومان وغيرهم، ولكن عجلة الحياة السريعة وطرق التاريخ الوعرة التي هزت توازن الحضارة الأوروبية جعلتها تحيد في بعض زواياها الإنسانية الفطرية مما قد يجعل الإنسان الأوروبي -البعض وليس الكل- بحاجة إلى أنسنة، فيما ظلت حضارتنا العربية الإسلامية وشرقنا العربي متمسكا بحياته الإنسانية التي تربطه بحقيقة الوجود وبقيم الحياة التي تجعل من الإنسان أدمي الهوى والهوية. تشده إلى إنسانيته؛ إنسانيته السوية.




http://www.alriyadh.com/2065131]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]