للإحسان والإساءة ميزانُ عدلٍ يحكم بينهما، وهو بالغ الدقة والوسَطِية، فلا إفراط فيه ولا تفريط، وذلك أن الشرعَ قد أقرَّ العفوَ عن الأخطاء الجانبية الصغيرة، وذوَبانَها بالمواظبة على الأعمال الصالحة، وباجتناب الجرائم الكبيرة الدالة على قلة المبالاة..
هذه الحياة ما هي إلا أيام معدودة، لا تكفي لما يطمَحُ إليه المشمِّرون في أمور دينهم، أو الجادُّون في شؤونِ دنياهم، فما المتعبِّد المجتهد الموفَّق بقائلٍ يوماً: لقد اكتفيتُ ولم يَعُدْ هناك ما أحتاج إلى عمله، وما المكتسِب الناجح بمفكر في الاستغناء بما حصل له، ولو افترض أن مُتَشبِّهاً بهما زعم الكفاية والاستغناء التامَّ في مجاله، وإمكانيةَ الكف عن السعي والتسبُّب، لكان ذلك مجردُ انتكاس مُنِيَ به، وكبوةٍ حصلت له، والواقع أن المكلف لا يزال مخاطباً بأوامر الله تعالى ونواهيه ما قدر على امتثال الأمر واجتناب النهي بحسب استطاعته، ويبقى محتاجاً إلى الإنجازات في معاشه، ولن ينفكَّ عن حاجةٍ إلى تحصيل المفقود، أو حفظ الموجود، ومن الغبن الواضحِ أن يبذل الإنسانُ الجهد الطائلَ في شيء، ثم يتوقف عنه بلا سبب معقول، أو يعود عليه بمَعاوِلِ الهدم، فينقضه حتى يلتحق بركب من لم يتعاطَوْا مثل هذا العمل، بل يكونون في بعض الحالات أحسن حالاً منه، ولو كان هذا المهدِرُ لجهده أو الناقض له مدركاً أهمية صيانةِ الجهد والمحافظة على المكتسب، لصمَّم على أن لا يُهدر شيئاً من أعماله، ولحافظَ عليها ما أمكنه، ولي مع عوارض العمل وقفات:
الأولى: الدنيا دار العمل والكدِّ وبذلِ الأسباب، ولن تجامِلَ أحداً في التخلِّي عن هذه المتطَلَّباتِ، بل إن المرء يرحل عنها ببقايا آمالٍ سبق أن راودته، ولم يتمكن من تحقيقها، فطُوِيَتْ صفحتُها بانطواءِ صفحة حياته، كما قال الشاعر:
نروحُ ونغدو لحاجاتِنا ... وحاجاتُ من عاشَ لا تنقَضي
يموتُ مع المرءِ حاجاتُهُ ... وتَبْقَى له حاجَةٌ ما بقِي
وكثير من الناس يتخيل أنه لو أنجز إنجازاتٍ معتبرة لوسعه أن يسترخيَ، ويستريح من مؤنة الجد والكفاح، وليس الأمر كذلك، بل صاحب العمل الحسنِ مطالَبٌ باستدامته ما أمكنه، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم: أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ. متفق عليه، بل إذا نظرنا إلى كل من يُحمد في مساعيه من الناس، نجد أن الله تعالى قد هداه إلى الجمع بين المثابرة على الأعمال المحمودة وصيانتِها عن كل ما يخدشُها من أضدادها ونقائضها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة لما ظنوا أن مقامه الرفيع وغفران الله له قد يحملانه على تخفيف العمل: (أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ) كما ورد في حديث البخاري.
الثانية: للإحسان والإساءة ميزانُ عدلٍ يحكم بينهما، وهو بالغ الدقة والوسَطِية، فلا إفراط فيه ولا تفريط، وذلك أن الشرعَ قد أقرَّ العفوَ عن الأخطاء الجانبية الصغيرة، وذوَبانَها بالمواظبة على الأعمال الصالحة، وباجتناب الجرائم الكبيرة الدالة على قلة المبالاة، ومصداق ذلك قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)، وقوله: (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ)، وغلَّظَ العقوبة في الدنيا أو الوعيد في الآخرة على الذنوب الكبيرة، ولم يربط إحباط العمل بأغلب الذنوب، فقد يرتكب الإنسانُ كبيرة ويعمل عملاً صالحاً، فيكون عليه وزر كبيرته، وأجر عمله، لكنه أبطلَ بعض الأعمال بما يقع فيها مما يناقضها، فمن تصدق ثم أتبع صدقته المنَّ والأذى فقد أبطل صدقته؛ لأن الحكمة من تشريع الصدقة جبرُ كسر المسكين، والمنُّ والأذى يُلحِقَان به من الكسور المعنوية ما لا يوازيه الجبر المادي الحاصل بدفع الصدقة، وكذلك يُبطِلُ جميعَ العبادات البدنية والمالية بالشرك؛ لأنه يناقض الحكمة من العبادة، وهذا الميزان الشرعي في العبادات يوجد مثله في المعاملات مع الناس، فالخيانة الواضحة المتعمدة تبطل الأمانة؛ لتناقضهما، والبغي على جماعة المسلمين وإمامهم يهدر العدل وما ترتب عليه من المحامد والمزايا.
الثالثة: من أسباب الإخلال بالمنجزات الاتكالُ على العمل، وذلك أن ناقِضَ إنجازاته بالأعمالِ الهادمةِ لها يتَّكِل على أعماله القديمة، فيظن أن الإنجاز فيها يُعفِيهِ من مسؤولية التحفُّظِ عن نواقض الإنجاز، فلا يبالي بأيِّ شيء أعقبَ الإحسانَ؛ لاعتقاده أنه لن يأتي بعده بما يزيله ويزحزحه عن مكانه، فيقول بلسان حاله: أنا الذي فعلت وفعلت، فكيف يلتفت إلى غلطة صدرت مني أو تقصيرٍ شابَ عملي؟ وهذا خطأ كبير، يكلف أصحابَه الكثيرَ من السمعةِ التي تعِبوا عليها طول حياتهم، وما صاحبُ هذا التفكير إلا كمن لبس ثوباً أبيض جديداً واتَّكل على بياضه فخاض به الطينَ والوحَلَ، وهو مناقض لما عُرِف عن كرام العرب وشخصياتهم من كون الحفاظِ على الحسب الرفيع يستدعي الكثير من المشاقِّ، سواء الأعمالُ التي تزيده وترفع من شأنه، والتُّروكُ التي تحميه من أن يلحق به ما ينخرم به.




http://www.alriyadh.com/2066139]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]