سألتك يومًا حين التقينا في لحظة خاطفة حانية، ماذا تريد منا؟ وكيف الولوج إلى عوالمك لكي تتحقق المتعة التي هي الهدف الأسمى حتى لو كانت عن طريق الألم؟ قلت لي: المعرفة.. لأن المعرفة وما في وعينا من معتقدات وأفكار وتصورات ليست غاية، وإنما هي وسيلة، مادة نتوسل بها ليتكون بواسطتها الفعل بوصفه بنية نموذجية محددة..
لم نكن على موعد على الإطلاق، ذلك لأننا دائما متلازمان تلازم الحياة والموت، تلازم الخوف واللذة، وتلازم التحقق والدهشة، وتلازم الألم والمتعة. فتلك إذا معادلة صعبة، حين تلهو بالأفئدة بين اللذة والشقاء. التقينا صدفة ولكن الصدفة أصبحت حتما تستوجب الإخلاص في التلاقي وفي الحوار الذي تحتمه أنت بأن يكون راقيا هادفا مؤدبا ومعلما فتفرضه بأن يكون بلسانك أنت وبحسب هواك وبما تمليه على رفيق درب. هكذا أنت تشترط على رفيق دربك بأن يتخذ قوانينك ودساتيرك لائحة فرضية وجب الالتزام بها، كما أنك اشترطت بأن من أراد رفقتك ألا يخل بأي بند من بنود ما وضعته في لوائحك، ومن يخالفها تضعه على أقرب رصيف في قارعة الطريق، وتذهب أنت بعيدا، تاركا إياه معلقا شغوفا نادما على ما اقترفه في حقك.
ما أصعب طريقك وما أكثر الحفر والتعاريج فيه، تختبر رفيقك بتلك الكلابات المدببة على حافتي طريقك، فمن أخطأ هوى في هوة سحيقة لا يمكن الخروج منها، ومن نجا كتب الله له المجد والخلود!
أي صديق أنت بهذه القسوة المعلنة! وبهذه الكبرياء تلتحف بها!، تؤتي المجد والخلود لمن داوم على تحدي العقبات، ولمن ظن كلما نجا أنه قد نجا، بينما يتجدد في كل لقاء معك ذلك العناء الذي وصفه بعض خلصائك بأنه كمضغ الزلط، ومع كل ذلك نداوم على السير في طريقك، نشعر بلذة المتعة جراء كل تخطٍّ، ثم نجدد السير بين كل تلك الكلاليب كمخالب الوحش الشرس، لكنك تكافئ وتمنح كل متعة رائجة تتعدى عتبات الموت إلى عتبات التاريخ والخلود فيه.
التحفنا بك أطفالا شغوفين، وشبابا متعبين مناضلين، وكبارا خائفين متوجسين، ذلك لأن طريقك يتجدد كطائر الفينيكس الذي كلما شاخ تجدد شابا يافعا متحديا كل من مس طرف ردائك المخملي.
لم تكن يوما رفاهية أو مضحكا للسادة، أو حتى مسليا للعامة كما يظنون، ولم تكن يوما ما صديقا لكل مازح متهاون يداعب خديك المتهدلين على حافتي وجهك الكتوم الغامض الأملس المداهن في بعض الأحيان، مداهن لأنك تريد جذب كل المتحذلقين إلى تلك الكلاليب التي تأبى عبور الزيف والتزييء!
نعشق فيك حكاياتك وأساطيرك البديعة التي ستبقى آثاراً خالدة وفريدة لكي تشهد على كل عصر بكلماتك التي تمليها على رفقائك حين تفتح نوافذ كل عصر عايشته أنت لينضح بما فيه ويدون تاريخه ويفضح خفاياه، مشروطا أن يكون الوعي البشري يشعر أنه في تداخل سيال وفى وحده بهيجة مع الطبيعة ومع الواقع المتزاوج مع الخيال، فوقتذاك، ببساطة وبدون عناء أو عذاب يكون الوعي يخضع العالم لروحيتك المستفيضة التي لم تستطع فى البدايات أن تكون محدده ومحدودة، بل تبدو كأنها تلعب وتتمتع ببراءتها بسلطة على الأشياء غير مثقلة نفسها بردود الفعل حول مدي التوافق بين تصوراتها والأشياء الحقيقية، فكل الأفعال التي تتم بصورة تلقائية عفوية وفطرية ليست إلا بحثاً غير مقصود عن كمال الصورة واتساق النسق الداخلي للإنسان وإيقاعه مع الحياة مما يحدث المتعة، ولذلك أصبحت مداعبتك كمضغ الزلط، شقية، معذبة ممتعة بهيجة، تبحث عن عوالم خفية في دهاليز العتمة، لتصبح قنديلا مضيئا يهتدي به من ضل في المفازة وما أصعبها من لعبة معك تجلب المتعة من خلال الألم!
سألتك يوما حين التقينا في لحظة خاطفة حانية، ماذا تريد منا؟ وكيف الولوج إلى عوالمك لكي تتحقق المتعة التي هي الهدف الأسمى حتى لو كانت عن طريق الألم؟ قلت لي: المعرفة؛ ثم تصمت وتذهب شاردا بعيدا متأملا مسببا لي حيرة جديدة ومتجددة كلما جلست في حضرتك. فالمعرفة مفهوم فضفاض حير العلماء والفلاسفة، لكنك سرعان ما تداركت حيرتي بقولك: إن المعرفة وما في وعينا من معتقدات وأفكار وتصورات ليست غاية، وإنما هي وسيلة، مادة نتوسل بها ليتكون بواسطتها الفعل بوصفه بنية نموذجية محددة. بالتالي فالإنسان هنا يلتقي المتعة في النشاط التشكيلي المزخرف بالدهشة، هذا النشاط الذي يكمن مضمونه في ذاته، ذلك حين يمارس الكاتب طقوسه وفنونه وأعماله بمتعه فائقة -المتعة معدية تنتقل بين حدين بفعل الطاقة الذهنية الباعثة على الحيرة وتعدد التساؤلات- تلك رغبة داخلية منه في التواصل مع العالم وإرساء جسر المعرفة ثم المتعة بينه وبين العالم بغرائزه الفطرية. وتفسير ذلك أن المرء موضع نفسه حتى يصبح فوق الشي وفي دخيلة الشي والإحساس به، فالسعي وراء الإحساس بشتى صوره هو لذة الإنسان وألمه والمسرح فن في الدرجة الأولى يرتكز على هذه الدرجة العالية من الأحاسيس. وحينما سألته في مجلسنا ذاك بما أن المسرح فن من الدرجة الأولى فماذا إذا هو الفن؟ قال في حتمية مستفيضة وملزمة: إن الفن يعرف تعريفا أكثر بساطة وأكثر دعابة، بأنه محاولة لخلق أشكال ممتعة ومثل هذه الأشكال تشيع إحساسا من الجمال وإحسانا بالفن وبالجمال، إنما يُشبع حينما نكون قادرين على تذوق الوحدة والتناغم بين مجموعة من العلاقات وبين الأشياء التي تدركها حواسنا لكي تحدث الدهشة.
تلك هي مدارجه ومناهجه التي تجعلنا نقترب منه ولعا ولهفة، صديقا حميما عنيدا متغطرسا حانيا يأبى التهاون والاستسهال.. إنه المسرح في يومه العالمي.




http://www.alriyadh.com/2067544]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]