تنفتح السيميائية على العلامات وما تدل عليه، أو الرموز وما تشير إليه، وهي منهج نقدي حديث، ومعاصر، وإن كانت إشاراتها معروفة في القديم عند بعض الفلاسفة اليونانيين، كأفلاطون، وأرسطو، وغيرهما، والواقع أن السيميائية منذ إرهاصاتها الأولى، إلى اهتماماتها المعاصرة، بقيت في فلك العلامة، تحوم حولها، وتدور في مدارها، فأضحت مهتمة في المقام الأول بالدال والمدلول، وهذا المفهوم العام هو الأساس الذي بنى عليه السيميائيون أكثر تصوراتهم للغة، والنص، والخطاب، والمعنى، والصورة، وما شابه ذلك من مجالات أخرى يمكن أن تنطق بها العلامة.
وحينما نتأمل في الخطابات العامة نجد بعضها لا يغفل الاهتمام بالعلامة بوصفها استعمال لشيء يحل محل شيء آخر، وقد شهدنا ذلك في كثير من الخطابات الأدبية: الشعرية، والنثرية، وقد رأينا مثل هذه الملامح السيميائية في الحديث النبوي الشريف، فعندما نطالع كتاب الصوم في صحيح البخاري -مثلاً- نجد بعض الأحاديث التي حوت علامات دالة، وإشارات ترمز إلى معنى محدد، فمن ذلك هذا الحديث: «حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر أن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدروا له».
ففي هذا الحديث نجد أن الهلال صار علامة لدخول الشهر وخروجه، وبذلك ترمز رؤيته إلى الصيام، أي صيام شهر رمضان، أو الإفطار، أي عندما ينتهي الشهر، ويقبل العيد، فكانت الرؤية في حد ذاتها دالاً على الصيام، والإفطار، كما أن الاغتمام، وعدم الرؤية دالة على التقدير والاحتساب.
ومن الأحاديث التي نجد فيها بعداً سيميائياً أيضاً هذا الحديث: «حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن جبلة بن سحيم قال: سمعت ابن عمر -رضي الله عنه- يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الشهر هكذا وهكذا، وخنس الإبهام في الثالثة»، فعبارتا: هكذا، وهكذا، تدلان على العدد.
ومن ذلك أيضاً هذا الحديث: «حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصيام جُنّة، فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه، فليقل: إني صائم، مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه، وشرابه، وشهوته، من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها».
ففي الحديث ينتظم الخطاب في نسق دال على بناء المقصد، والغاية، وفي الحديث تجلت علامات خطابية دالة على معانٍ عديدة، كالصمت، والإعراض، وعدم الدخول في الجدال، والتغافل، والصبر، والتلفظ الطيب والمتكرر (إني صائم).
كما دلّت العلامة الشمية في (خلوف - ريح) على قيمة الصوم، وعظم أثره، ودلّ ترك الطعام، والشراب، والشهوة على معنى الإمساك، والابتعاد، والصبر، والاحتساب، وفي ذلك إعلاء لمعاني الصوم السامية، وهكذا تدل هذه العلامات التي نجدها في الحديث – حسية كانت أو معنوية – على غايات الصوم العظيمة، ومعانيه القويمة، ولحظاته الثمينة، فهو شهر الخير، والصبر، والأجر، والاحتساب، وتعويد النفس على كبح الشهوات، والتزوّد بالصالحات.




http://www.alriyadh.com/2067698]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]