حينما تساءل جدي المتنبي ذات تاريخ قديم: (عيدٌ بأيةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ) كان يدرك حقيقة التغيّر فيه ومنه ومعه حتى وهو يستشرف ذلك دون أن يحياه.. وكم يدهشني فعلاً أن يؤخذَ هذا البيت على العيد لا له، حينما يمثّل وجدًا على العيد واعترافاً له كمناسبة تحمل الجديد المفرح والقديم المستعاد معاً، فنحن في كل عام نحاول جاهدين أن نحيا العيد بمكوناته مهم تباينت العصور وتطوّر مفهوم الترفيه فيها، نحاول ولو تذكّراً أن نصحو للصباح نقبّل فيه بشاشة الظلال وتهاني المارّة، لهذا لا نجد مفرّاً من العودة إلى منابعنا الأولى غالباً حيث القرى المسالمة والبدايات التي جعلت من أعيادنا انتظاراً ومن انتظارنا طفولة نستعيدها.. هكذا يأتي العيد عبر سنوات العمر خالصاً لوجه البياض حينما حاصرته دائماً بتكرار طقوسي القديمة منذ أكثر من أربعين عاماً، حيث منابت السنين الأولى في قريتي التي تنتظر العيد كل عام لتجدّد حضورها فيّ، وتستعيد حوارها الطفوليّ معي.. هناك أحرص على أن ألتقي بشيخ كان صديقاً لأبي يعرفني من خلال ملامحه فيّ فيعيد لي سيرة النخلة والبحر وأزمنة الحنين، ومآثر الأيام ومواقف التذكّر، وآخر يكرّر دعاءه له بالرحمة كلما رآني في صدر مجلسه القديم أجاهد كثيراً كي أشغر مكانه الخالي منذ حوالي أربعين عاماً دون أن يمتلئ إلا بتذاكره ولا يحييني الناس فيه إلا باسمه، ولا أكون إلا به..! هكذا هو العيد.. مدينة من الفرح لا تقيم فيها إلا الأزمنة المتصالحة مع ذاتها، ولا نزور فيها إلا ذكرياتنا المعتّقة بالشجن والحنين وطفولة الأحلام، أضواؤها نجومٌ لا تغيب حتى في الظهيرة، وظلالها أناسٌ طيبون يكرِّرون عليك تحياتهم واحتفالاتهم بلقائك.. نهارها أشبه بالسفر عبر الوجوه العابرة وتتبع العطر في خطاها عبر شوارع القرية الطينية النشطةِ بعودة الراحلين عنها إليها، وليلها شارع مفتوح على السمر القديم وتبادل الضحكات والأغنيات الشعبية المستعادة في كل عام...
فاصلة:
يمدُّ النخيلُ ذراعيه نحو السواقي..
وبي من لهاثِ القصيدة ما يجمع
القلبَ والنخلَ والأرض
أبي كان يزرعُ ضوءًا..
سقاه زمانًا وأهداه لي..
ثمَّ قالَ: (اسقه يا بُنَيّْ)
وها أنا ذا: والنخيلُ أمامي
تجرِّده الريحُ من كل شيْء
تعرَّيتُ للنخلِ حين استقامت يدي..
وكانَ أبي: (أيها الأمُّ مدي ذراعكِ نحوي
أعطني من ترابِ الضياء العرقْ!
ظمئتُ بماء التعرُّقِ حتى الغرقْ
أيها الأم مدي حبالك نحوي
.. لا بأسَ
بالجذع
بالسّعْفِ
بالمائساتِ القدود..)
وكنتُ أبي: أمدُّ يدي باتجاه الضياء
أرى النخلَ يلتفُّ بالنخلِ
(ليمونةً ظلَّلتْ في شفاتي الضحى)
أعيدُ إلى كتفي ما وهبتُه قبلاً
.. ليبقى أبي: يصبُّ مياهَ القصائد فوق الظلالْ..
يدوِّره باتجاه الضياء
(دوائرْ دوائرْ دوارٌ دوائر دوارٌ.. دواااارْ
ويهوي أبي من جبين النهارْ..!




http://www.alriyadh.com/2068911]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]