لا شك أن الدراما التلفزيونية في عالمنا العربي وفي العالم أجمع باتت من الوسائل المهمة والحاسمة في عصرنا في ترويج الثقافة والمعرفة والهوية الثقافية للمجتمعات، لا سيما بعد انتشار منصات التواصل التي تعنى في تسويق الدراما وإذاعتها، والمتأمل في الدراما التي كانت تنتج منذ ثمانينات القرن المنصرم سيلحظ أنها كانت تركز على تقديم العمل التأريخي الذي كان يعد سمة من سمات دراما هذا الشهر الفضيل، فقدمت جملة من الأعمال الفنية التي تحاول تقديم صورة من سير أعلام التأريخ العربي، وإن كانت تركز على المضمون أكثر من الشكل الفني الإخراجي، هذا الشكل الذي شهد تطور فنياً عالياً مع نهايات تسعينات القرن الماضي وبدايات الألفية الثالثة، والذي تمثل في أعمال شكلت مفاصل مهمة في الدراما التلفزيونية من مثل: أعمال الزير سالم، والسلسلة الأندلسية للمرحوم حاتم علي، ومنها ما صور الأخطار التاريخية واللحظات المأساوية التي تعرضت لها أمتنا العربية كما نلحظ في مسلسل هولاكو وغيره.
ولعل المتأمل فيما قدم في المواسم الرمضانية الأخيرة، سيلحظ ميل هذه الدراما إلى التركيز على شكل التواصل مع المشاهد، ولا سيما المشهد البصري، مع محاولات لزج اللغات العامية لتكون لغة العمل التاريخي، حتى لو كان يتناول سيرة شعبية، وربما كان هذا سبباً في افتقاد تلك الأعمال منطقيتها الدرامية من جوانب عدة، وربما هذا ما جعل الدراما تنحو نحو اختراع فانتازيات حكائية تجمع بين اللحظة الزمانية الحديثة واللحظة التاريخية البصرية، فتقوم على حكايات مفترضة تعتمد على التشويق الدرامي، وتحتفظ بالتراث من حيث الصورة والعادات والتقاليد، كما نلحظ في كثير من الأعمال الشامية التي عالجت قضايا الحارة الدمشقية القديمة، وهذا النمط وإن كان يتخلى في كثير من اللحظات عن القيمة التاريخية لصالح الحكاية، إلا أنه أسهم في نشر عادات اجتماعية وأخلاقية باتت مجتمعاتنا العربية في زماننا في أمس الحاجة إلى تأكيدها لا سيما على الصعيد الأخلاقي، وإن كان تطوير سبل مثل هذه الحكايات وتوثيقها تاريخياً ما زال بحاجة إلى النظر الدقيق.
ولو تأملنا المنتجات الدرامية في المواسم الرمضانية الأخيرة، سنلحظ انحساراً كبيراً للمسلسل التاريخي على حساب الأنواع الدرامية الأخيرة، وقد يكون لذلك ما يسوغه من ناحية الإنتاج، ومن ناحية كتابة النصوص، فلا شك أن كتابة الدراما المعاصرة أسهل من كتابة الدراما التاريخية التي تقتضي مرجعية بحثية واسعة وعودة إلى كتب التاريخ بمختلف أنواعها للتحضير للعمل، كما أنها تحتاج إلى مختصين يجمعون بين أصول كتابة السيناريو والاختصاص أو التعمق التاريخي، وهذا ما باتت تفتقده الدراما العربية التي باتت تنزع نحو الشكل البصري في مواطن عدة على حساب البنية الفكرية والأمانة التاريخية، كما باتت تميل إلى القضايا التي تثير إشكاليات في الموضوع والطرح بهدف الإثارة الفنية، وإثارة التريندات على مواقع التواصل الاجتماعي لكسب المشاهد، وإن كنا لا ننكر أثر ذلك وأحقيته في بعض المواضع، إلا أننا في محاكمة المنتج الدرامي قد نجد أنفسنا أما دراما فقدت كثيراً من قيمتها وأهميتها على الأقل مقارنة بالدراما العربية التاريخية في فترات سلفت.
إنها دعوة للمحطات الكبيرة المتمكنة وذات الانتشار الواسع وقوة الحضور لإدراج الدراما التاريخية ضمن خططها البرامجية، على أن تكون مشروعاً تنويرياً وثقافياً يقدم رؤية درامية للتاريخ وفق خطط بعيدة عن أهواء كُتّابها من خلال اعتماد فريق عمل يجمع بين مختصين بالتاريخ وكُتّاب الدراما المتخصصين لوضع خطط إنتاجية لأعمالها.
لا شك أن الدراما لم تعد مادة ترفيهية فقط، وإنما باتت حالة فكرية ووسيلة لنشر الثقافة وإعادة تحريض ذائقة المتلقي/ القارئ لتشكيل ثقافة أخرى بعيدة عن عصر الاستهلاك الذي يبدو أنه بات سمة لعصرنا، فهل من آذان مصغية؟






http://www.alriyadh.com/2068909]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]