لعله من الصعوبة بمكان في لحظات التنافس الشديد والكثافة في العرض خلال الشهر المبارك أن يستطيع الإنسان تقديم رؤية شمولية لفرز الأعمال المقدمة خلال هذا الشهر الذي تتنافس فيه الأعمال الدرامية على جذب المشاهد واستقطابه لصالحها، ولكن يمكن للمتأمل أن غلبة التاريخ والموضوعات الاجتماعية القائمة على الصراع الاجتماعي والأكشن والتاريخ هي سمات الموضوعات التي يراهن عليها صُنّاع هذه الدراما، من هنا تغيب الموضوعات الاجتماعية التي تعالج مشكلات اجتماعية وإنسانية التي تعنى شرائح أخرى من المجتمع وتسلط الضوء على صعوبات حياتهم وخصوصيتها، وفي هذا السياق نجحت هيئة الإذاعة والتلفزيون السعودية، قناة SBC أن تقدم للمشاهد وجبة درامية متنوعة، كان مما يلفت الانتباه فيها المسلسل السوري (أغمض عينيك) الذي كسر سياق الموضوعات الرائجة ليخص موضوعاً إنسانياً شديد الحساسية بالمعالجة وتسليط الضوء، إذ تناول مشكلة تخص شريحة من الناس، هم فئة المصابين باضطراب طيف التوحد، من خلال استعراض حياة طفل مصاب بالتوحّد، يفقد عائلته ويتبنى تربيته رجل عجوز وما يعتري ذلك من مفارقات درامية خلال تقدم عرض الحلقات.
إن المقولة الأساسية تكمن في معالجة مسألة افتقاد مهارات التواصل مع المجتمع وما يسببه ذلك من تنمر وتمييز في المجتمع، مما يجعل من الوعي العلمي والصحي مع هذه الحالات ضرورة ملحة حاول المسلسل تقديمها في سياق درامي حكائي منضبط بعيد عن الوعظية والمباشرة ومنسجم الحبكة، عبر خيارات ناجحة للممثلين، والطفل الذي أدى شخصية البطل بحرفية عالية، فقدم لنا العمل رصداً للحظات الإنسانية الهاربة التي قد لا نتوقف عندها في حياتنا، من خلال التقاط صور لأشد اللحظات المفعمة باللحظات الإنسانية من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم استجداء التعاطف مع شخصية المصاب بهذا المرض، وإنما من خلال تقديم هذه الشخصية على أنها شخصية إنسانية لها حقها في أن تكون ناجحة في المجتمع، وما أثر المجتمع في تعزيز تحسن الحالات الصحية، ودرجاته المتنوعة التي تنشر ثقافة مفيدة حوله من خلال حكاية درامية مشوقة. لو تأملنا عنوان هذا العمل الدرامي (أغمض عينيك) لوجدناه مفعماً بالشاعرية واللحظات الإنسانية، فهو عنوان مقتبس من قصيدة جورج جرداق الشهيرة (هذه ليلتي) التي غنتها أم كلثوم، من البيت القائل:
فادنُ منّي وخذ إليك حناني ثم أغمض عينيك حتى تراني لا شك أن عبارة (أغمض عينيك حتى تراني) تمثل مقولة العمل الإنسانية، فالبصر قد لا ينقل الحقيقة والحالة، وقد يكون خدّاعاً، لذلك لا بد من نور البصيرة لتحقيق الرؤية، الرؤية البعيدة عن ما تُجمّله العين في ناظرنا، أو تُقبّحه على حد سواء، إننا في حاجة إلى نور البصيرة ورؤيتها كي تعيدنا إلى إنسانيتنا التي قد يصيبها الخفوت في بعض الأوقات. ربما كان الاختيار الموفق لقناة سعودية لعرض هذا العمل الذي يحقق نسبة مشاهدة منافسة، يجعلنا نأمل في تكون مثل هذه الدراما الجادة التي تسلط الضوء على قضايا إنسانية، على جدول خططها المستقبلية عرضاً وإنتاجاً، لا سيما عندما يتحقق شرط الإبداع الدرامي مع شرط موضوع العمل، فيغتني المتلقي بالمشاهد الفنية البصرية ذات التقنية العالية المتواشجة مع حالات إنسانية طافحة بالإنسانية والنبل، عندها يمكن الحديث عن أثر الدراما العربية وقنوات العرض بمختلف أنواعها في تقديم وجبات درامية غنية بالفن والجمال والثقافة، وقد يكون ذلك أملاً غير صعب المنال.





http://www.alriyadh.com/2072181]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]