ماذا يعني أن يمسك شخصٌ ما ورقةً وقلماً ليكتب في كل يومٍ تجربته التي مرّ بها؟ إنه حين يفعل ذلك فإنما يقدم للقارئ تجربته المتجددة تجاه الحياة، فالكتابة اليومية هي تشخيصٌ لنبض العمر المستمر، وهي حالة انعكاس لأعماق الإنسان على سطح مسيرته الزمنيّة، وقد حفلت مكتبتنا العربية بالعديد من التجارب الثمينة التي دوّن فيها الكتّاب خواطرهم ويوميّاتهم، فشكّلت ثماراً ناضجةً، تزخر بالخبرة والتجربة المعيشية، التي تضيف للقارئ، وتمنحه نظراتٍ مختلفة للحياة، فالعقاد كتب يومياته تحت عنوان (أنا)، وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) كتبت (على الجسر بين الحياة والموت)، وإدوارد سعيد كتب (خارج المكان) وغيرهم كثير عربياً وعالمياً، وهذه التجارب الكتابية هي في حقيقتها مواجهة للذات وتصدير لها في آنٍ معاً، مواجهةٌ للذات لأنها تجيب عن أسئلة الأعماق التي لا يسمعها إلا كاتبها، وتصدير للذات لأنها بوحٌ له صدىً ومدى نحو المتلقي.
وكتابة المذكرات اليومية في جوهرها وقفاتُ تأملٍ في ساعة من ساعات اليوم الصافية؛ فكاتبها لا يدون توثيقاً، ولا يرصد حدثاً للتاريخ في الغالب، بقدر ما يكتب لنا فلسفته الخاصة نحو الإنسان والكون والحياة، المذكرات اليومية هي عصارة اكتنزها اللاوعي عبر الكثير من التجارب الخاصة بكل مذاقاتها المختلفة، ومن النماذج التي صدرت حديثاً كتاب (أفكار يومية) للكاتب الفرنسي (أُمرآم ميخائيل أيفانهوف) والكتاب عبارة عن فكرة في كل يوم عاشه المؤلف من أيام السنة، أي أنه كتب ثلاث مئةٍ وستون فكرة في كلّ صفحة من كتابه لتشكل عمراً مديداً من الأفكار والتأملات اليومية، وفي كل يومٍ أشرقت شمسه على المؤلف كان يدون تأملاً توجيهياً مختلفاً، يخاطب فيه عقل الإنسان وروحه وسلوكه، كان في كل يوم جديد يسكب لنا زلالاً من الخبرة والمعرفة الحياتية، إنها ومثيلاتها من النماذج الكتابية تجربة تستحق القراءة والتأمل، وعلى القارئ الفطن أن يلتقط من ثنايا هذه الأفكار ما يناسب توجهاته في طريق الحياة، فالحكمة ضالةٌ ينشدها كل ساعٍ نحو النجاح والقمة، إنّ قيمة المذكرات اليومية تكمن بالدرجة الأولى في مدى قدرة هذه الأفكار على الوصول إلى عقل القارئ وروحه، فهي تجربة إنسانية خاصة، ولكنها عِبرةٌ ودرسٌ عامة، موجهةٌ من كاتبها للجميع ليشاركوه لحظة التأمل واستنطاق العوالم المحيطة، وليندمجوا معه في صفاء الفكرة والاعتبار بها، وكأنه يصف طريقاً مرّ منه ومضى، فخبر دهاليزه وأزقته، وسهولته ووعورته، وعرف عراقيله ومنعرجاته، ليعرف السالكون بعد ذلك لهذا الطريق ما الذي عليهم توخيه والاحتراز منه، فتصبح هذه الأيام ميداناً لنقل تجربةٍ صادقة، لمن أراد أن يمشي سوياً، مستبيناً ومستنيراً بالمزيد من العقل والحكمة، ومن يظنّ أنه اكتفى بعقله الخاص، وتجربته الذاتية في هذه الحياة، فإنما حرم نفسه دون أن يشعر غنيمةً باردة، أقبلت نحوه فصدّ عنها، لأنّ الاستماع لخبرة الآخرين وقراءة معارفهم هي رصيد معرفيّ إضافي، تظهر منافعه في اللحظات والمواقف المناسبة، وكلما زاد هذا الرصيد زادت فرص النجاح، وانفرجت حلقات من النور أمامه ما كانت لتنفرج لو اكتفى الإنسان بتجربته الخاصة، ومن سطور هذا الكتاب يقول المؤلف: (يجب على من يشعر بالحاجة إلى العمل من أجل خير البشرية أن لا يتساءل إن كان سينجح بتحقيق ذلك أم سيفشل، لأن هذا التساؤل سيُدخل فيه تردداً وشكاً سيحدّان من اندفاعه، كل ما عليه فعله هو العمل).






http://www.alriyadh.com/2072183]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]