المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ( .. هكذا انطفأت الشمعة .. ) - قصة قصيرة



موادع الغرام
04-04-2003, 16:21
** هــمــســة **

أخي الفاضل - أختي الفاضلة :

لا أريد أن أقتحم عليك أسوار خيالك و رأيك و لكن ¿!! قبل أن تقلب ناظريك بين صفحاتي فجر في أعماقك سؤالاً أقلقني : " كم يشغل والدانا من مساحة تفكيرنا ¿!! و كم مساحة العقوق لدينا ¿!! " دع الإجابة تحلق بك إلى الثريا لترى بوضوح حجم المعاناة و مقدار الألم .

تعبت الشمس فآثرت الرجوع إلى بيتها ¡ و تركت الفضاء الشاسع للسحاب ¡ و ما إلا لحظات حتى تجمعت السحب ¡ و عم السكون الأرض ¡ و رحلت العصافير إلى أعشاشها و هربت الحيوانات لجحورها ¡ و بتجمع الغيوم ساد المكان رعد و برق و صواعق ¡ و بدأ المطر ينهمر بغزارة ¡ حتى سدت المياه الطرقات .

و هناك في ركن منزو من ( دار رعاية المسنين ) جلست ( أم يوسف ) تحت قطرات المطر المنهمرة انهمار دموعها ¡ و كانت قد جاوزت السبعين من عمرها ¡ ترتعش يداها ¡ تسعل فيضيق النفس بها ¡ تبتهل إلى الله : " أين أنت يا ولدي الحبيب ¿!! لعل البرد يؤذيك ¿!! لعل الأمطار بللت ثيابك ¿!! " كلمات مبعثرة خرجت عبر شفتيها اليابستين ¡ و دموعها أنهار فوق خديها و قد ذبلت من الحزن و الأنين .

حينها لمحها ( محمد ) ذاك الفتى اليافع في الخامسة و العشرين من عمره و الموظف بهذه الدار ¡ اقترب منها و تساؤلات كثيرة تدور بخلده : " ترى هل لهذه العجوز الطاعنة في السن من أبناء ¿!! هل لها بقايا من أسرة ¿!! أو حتى بقايا من أحفاد ¿!! ترى كم مساحة الحزن لديها ¿!! و ما سببه ¿!! جحود .. عقوق .. نكران للجميل .. ربما " ¡ اقترب منها فتبسمت و هي تخفي دمعة انحدرت من عينيها الذابلتين ¡ و رسم قبلة على رأسها و لسان حاله يقول : " كم أتمنى أن أسعدك يا بحر الحنان ¿ أن أعيد لك سنين السعادة ¿ ليتني أستطيع أن أوفيك حقك ¡ ترى بم يقاس الوفاء ¿!! أبقبلة على الجبين كل صباح أم بتقبيل الكفين أم .. أم ¿!! " فأجابت ( أم يوسف ) بما منحها الله من عاطفة أمومة صادقة : " الأم لا تطلب من ولدها بدلاً ¡ و هل يطلب الإنسان من نفسه عوضاً ¿!! " .

قال ( محمد ) : " أنا .. أنا يا أماه .. " ¡ و ما كاد ( محمد ) أن ينطقها حتى تنهدت و كأنها تبعد عن كاهلها سنيناً متراكمة ً من الحزن ¡ و ردت بصوت متحشرج و بنبرة حزن ممزوجة بدموع سرت على مقلتين شكلتهما ثعابين الحياة و قسوة الدهر :

" تسعة أشهر و هو بين أحشائي ¡ ينعم بالقرار و الحماية ¡ يأتيه الغذاء المصفى ¡ و أنا أكابد الحسرات و أفقد لذيذ النوم في هو مائ جفنيه ينام ¡ و مرت مدة الحمل و ربيع الأمل بقدوم ابني البكر يسعدني ¡ حانت النهاية و جاءت البداية .

أعلنت حالة الطوارئ في جسدي ¡ الكل يترقبه ¡ يبتهلون إلى الله أن يخرجه سالماً ¡ فكم هم المشوهون ¿ و كم هو المعاقون ¿ و كم .. ¿ و كم .. ¿

الوالد يبتهل إلى الله عزوجل و الأم تصارع أمواج الألم صابرةً فرحةً تعانق الأمل بقدوم يوم مشرق للجميع ¡ فاعترتني موجة غاشية أفقدتني الوعي ¡ الحمد لله حانت ساعة الصفر ¡ و خرج ( يوسف ) للدنيا و ملأ صراخه الآفاق .

و مرت السنون كالطيف الجميل و كبر معها ( يوسف ) و صار شاباً تجري الحيوية في عروقه ¡ تحقق له كل ما يريد ¡ فصار مدللاً ¡ صار أنانياً !! لم نعد نراه إلا نادراً !! بعد أن يتسكع في الطرقات حتى أنهكها معه .

ابيض شعر والده و خارت قواه ¡ و ذات يوم انزوى في ركن من المنزل ¡ مد ساقيه و وضع رأسه بين يديه ¡ و سافر عبر السنين الغابرة ¡ يسألها و يجادلها : " ترى أين تلك الآحلام و الآمال ¿!! أين تلك التي رأيتها في عيني ولدي ¿!! لم أبخل و لم أقصر و لم أفتر ¿!! و لكن تجري الرياح بمالا تشتهي السفن !! " هده المرض و الكبر ¡ و طال انزواؤه ¡ ذهبت فتحسسته بيدي الراعشتين ¡ ناديته ¡ حركته ¡ قلبته ¡ و لكن لا أثر للحياة " و أطلقت ( أم يوسف ) العنان لدموعها لتشكل بحيرة الحزن المالحة .

و ما هي إلا لحظات حتى قامت كالملسوعة : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. اللهم سلم .. اللهم احرسه " قلبها يخفق مردداً : " يا رب سلم سلم .. لا حول و لا قوة إلا بالله " ¡ إحساس غريب دب بين أوصالها و غرس في نفسها !!

و في الجانب الآخر من الحياة ¡ حياة العنفوان و الشباب و الحيوية ¡ انطلق ( يوسف ) يسابق الريح متقلباً بين أفكار وهمية زرعها في نفسه : " لا أحد يهتم لأمري ¡ ليست لي أي قيمة ¡ إنهم يحتقرونني و لا يحبوني !! إني فاشل !! و لكن من أمهر مني في فن القيادة ¡ سأكون أعظم سائق عرفته الطرق " فانطلق ولا يعلم أهو في اليم أم فوق الغيم ¿!! .

و بعد كر و فر مع الهواجس و الأفكار تحول الشارع لحلبة سباق ¡ سرعة السيارة تزداد و نشوته في ازدياد ¡ يصارع كتل السيارات و الموسيقى تعانق أسماع المارة . و حانت منه التفاتة لم يشعر بالجهة المقابلة منه ¡ و ساد المكان صوت دوي و غبار ¡ عقبه سكون بعد أن تعانق الحديد مع الوقود .

لا يتحرك منه إلا رأسه ¡ كومة من اللحم ملقاة على سرير أبيض ¡ يذرف الدموع و تأكله الحسرات حتى ذبلت عيناه بعد أن آتاه الله بسطة في الجسم و كثيراً من الحسن ¡ و مع الحادث تلاشت أحلامه ¡ و صارت أمانيه سراباً تذروه الرياح


أخي الفاضل - أختي الفاضلة :

هذه قصة كتبتها كي أذكركم بوالديكم وحقوقهما
فأتمنى ألا تبخلوا علي برأيكم بها ¡ و النقد مقبول طبعاً