المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رؤية النمل للتدخلات الكبرى



المراسل الإخباري
12-20-2016, 21:08
في يوم من أيام طفولتي أصبت بحمى شديدة¡ كان علي أن أغيب عن المدرسة¡ خمدت في النوم حتى العاشرة¡ نهضت من الفراش وأخذت أجوب البيت.. كل شيء كان هادئا.. التقطت فروة الوالد ووضعتها على ظهري وخرجت إلى الشارع¿ في ذلك الزمن كان الشارع هو مفتاح المشاكل وحلالها وفرصة لتشتيت ضيق الصدر.. لا يوجد داخل البيت شيء تتسلى به.. كل أصدقائي وأقراني في المدرسة.. الشارع خالٍ من المارة تماما¡ جلست على عتبة الباب ألتمس الدفء من أشعة الشمس.. متعة شمس الشتاء تخلب الألباب.. تسربت الحرارة إلى جسدي.. شعرت بثقل الفروة فخففت من طوقها على جسدي¡ أفرجت عن صدري وساقي.. أحسست أن ثمة تنميل يدغدغني أسفل الساق.. اكتشفت أن أكثر من نملة تسلقتني¡ ضربت على ساقي ونفضتها فتساقطت¡ تبين لي أني كنت أجلس على ممر رسمي للنمل.. تقصيت مسيرتها فشاهدت أن خط النمل يخرج من بيت الجيران ثم يعبر من تحت عتبة بيتنا التي أجلس عليها¡ يتجه بعد ذلك إلى عدد من الخروم تتبينها من كومة التراب المتكومة حولها.. لم أجد ما أتسلى به سوى متابعة تلك الأسراب الهائلة التي تمر من تحتي وتعبرني ذهابا وإيابا¡ بعضها يخطئ ويصعد على ساقي¡ أتركها قليلا¡ وعندما أحس بتماديها أنفضها فتسقط.. فرض علي أذاها الخفيف أن أشعر بحضورها.. المرة الأولى في حياتي التي أولى فيها هذه الكائنات انتباهي¡ لاحظت أن هناك اختلافات بين النمل¡ لم أتبين كم نوعا هي ولا إلى ماذا تتوزع هذه الأنواع¿ تأكدت بقليل من التأمل أن بعض النمل أكبر قليلا من بعضه الآخر والبعض الآخر يعض على قطعة طعام ويدفعها أمامه¡ وبعضها يجري سريعا والبعض الآخر يتحرك بهدوء.. زاد اهتمامي بها¡ أشغلتني عن وحدتي ومرضي¡ قررت أن أشاغبها¡ أخذت قطعة عود صغيرة وتتبعت أحد الخطوط فتعرفت على الثقب الذي تنتهي إليه¡ غرست العود في الثقب¡ فوجئ السرب بانسداد أفقه¡ صار يتخبط ويتوزع ويصطدم ببعضه البعض.. تركت الأمر على ما هو عليه حوالي ربع ساعة¡ لاحظت أن الخط الذي أتابعه اتخذ طريقا أخرى.
لم يغب عني النوع الثاني من النمل.. لم نكن نسميه نملا. كان اسمه آنذاك قعيسات. أكبر حجما من النمل العادي ولونه ضارب إلى السمرة.. بدت لي أن القعيسات أقل ذكاءً من النمل الأحمر.. مجرد تخيل وبمعايير إنسانية في قياس الذكاء.. يتسم بالسرعة والخفة وكثرة التلفتات غير المبررة. ربما لأنه الأكثر انكشافا لي.. حجمه يساعدني على رؤية شيء من سيقانه ورأسه وذيله وخطوه الطويل¡ هدوء الأحمر يوحي بالحكمة فزاد تقديري له على حساب الأسمر.. لم أشعر بالتعاطف مع القعيسات فركزت أذاي عليها.. صرت أخرب بيوتهم وأعبث بطرقاتهم.. لا أعلم إن كانت جحافل النمل تدرك تدخلي في حيواتهم ورزقهم ومعاشهم وطرق سيرهم¡ أو أنهم رأوا أذاي لهم امتدادا لاعتداءات الطبيعة عليهم.. يأتيهم السيل ويجرفهم أو تأتيهم مكنسة شيال القمامة وتكنسهم أو تنزل عليهم كورة يلعبها الأطفال وتدمر ممتلكاتهم.. يموت من يموت ويصاب من يصاب ولكنهم في النهاية يعيدون ترتيب حياتهم من جديد وينطلقون إلى التزاوج والتوالد وإنتاج جيل جديد يحمل أعباء المستقبل.. بعد حوالي ساعتين رفع أذان الظهر.. رميت عود العبث ونهضت.. في لحظة واحدة مسحتهم من ذاكرتي وعدت إلى شؤوني الإنسانية.
كبرت وتعلمت ونضجت قدراتي.. صارت تلك الخبرة الطفولية شيئا مثيرا¡ أستعيدها عندما تختلط الكوميديا مع المأساة في حياتنا السياسية وفي علاقتنا مع الدول الكبرى.. أتخيل أن النمل الأسود يتهمني بالتآمر والانحياز للنمل الأحمر.. لا تدرك القعيسات المسكينة أني لا أميز بين صغيرهم وكبيرهم بين أميرهم وخادمهم بين أنثاهم وذكرهم ولا تهمني همومهم وصراعاتهم حتى وإن كانوا يخوضونها ضد بعضهم منذ آلاف السنين.




إضغط هنا لقراءة المزيد... (http://www.alriyadh.com/1556378)