المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما هذا الحس الشفيف¿



المراسل الإخباري
01-29-2017, 18:03
وإذا ما تتبعنا الحضارة الإسلامية التي سادت العالم¡ فسنجد أن أخلاق الفاتحين تسبقهم¡ وتعاليم دينهم تقيدهم¡ ولذا كانت الحضارة تنشر أشرعتها من شرق الكرة الأرضية إلى غربها!
لماذا لم يخطر ببال أجدادنا العرب أنها ستنشأ جامعات لتدريس علوم الأخلاق حتى أصبح علما من العلوم الحديثة في بلاد الغرب (علم الإيتيكيت)¿
سأعاجلكم بالإجابة التي تعرفونها وهي: أننا نحن العرب من أسس مبادئ الأخلاق حتى أن رسولنا الكريم جاء ليتمم هذه المكارم!
وللأسف الشديد أننا من أخذ يفرط في هذا الإرث الكبير الذي قامت عليه الحضارة العربية بل كان معلما من معالمها التي يرتكز عليها¡ فلماذا هذا الهدر لممتلكاتنا الذهنية¿ حقيقة الأمر أنه شر مستطير كامن في تربص لا نعلمه!
ذكرت في مقال سابق كيف قامت النهضة في أوروبا في القرنين السادس والسابع عشرº وكيف أن أول ما أسسته أوروبا هي المدرسة الأخلاقية حتى أصبحت الأخلاق معلما من معالم الأدب والمسرح في تلك الحقبةº فقد قررت الأكاديمية الفرنسية معاقبة من يخالفها. وأذكر أن الكاتب الفرنسي (كورني) قد حوكم وسُحبت منه الجائزة التي كان قد حصل عليها لأنه جعل شابا يصفع رجلا كبيرا على المسرح فى مسرحية "السيد"¡ ثم إن مشاهد القتل والعنف كانت تمنع على المسرح¡ فكانت تُعرف الأحداث عبر السياق الدرامي¡ وعلى ذلك قامت النهضة التي تعتمد على الأخلاق¡ وكانت الفنون والآداب معنية بتأسيس هذه المدرسة ولذلك سميت (الكلاسيكية) مشتقة من كلمة (كلاس).! وهذا ما كان له التأثير الأكبر في عصر النهضة.
وإذا ما تتبعنا الحضارة الإسلامية التي سادت العالم¡ فسنجد أن أخلاق الفاتحين تسبقهم¡ وتعاليم دينهم تقيدهم¡ ولذا كانت الحضارة تنشر أشرعتها من شرق الكرة الأرضية إلى غربها!
قد يبدو هذا كلاما عاما وأنا لا أحبذ العموميات بدون مناقشة وتفصيل¡ ولذا سندلف إلى الحس العربي العام¡ وإلى ذلك الرقي في السلوكيات التي تحتفظ وتعتني بمشاعر الآخرين¡ وأكاد أجزم أن هذا الأمر هو لب الأخلاق والرقي الذي يسمو بالشخصية العربية والتي قد يصفها البعض (رجعية) أو (متخلفة) أو (ريديكالية) أو قل ما تشاء في جعلها أمرا قديما في ضوء ما تقدم به العصر الحديثº ولكننا سنبحر قليلا في أعماق الحس الشفيف في الخطاب الذي يلف الوجدان بغلالة حريرية.
من المتعارف عليه أن هناك لغة ضمنية يفهمها الآخرون وهذا التضمين هو تلك الغلالة الحريرية دون فجاجةº فأين نحن من هذا الجمال وذلك الرقي في عمق تراثنا.
لن نتحدث عن الأخلاق والتعامل في الإسلامº لأن غير واحد يفهمها كفهمه لأصبع يديه وإن لم يتعامل بها¡ ولكننا سنبحر إلى عمق الحس الذي جاء هذا الدين ليقوي أواصرهº فتربية الإحساس من أصعب وأشف التعلم.
لم تكن الأخلاق في عمق تراثنا تسند إلى مدارس أو كتب تقرأ أو خطط تعليمية¡ ولكن العرف الجمعي والوجدان الجمعي هما المربي الأول¡ ولذلك أقول إن المجتمع هو المنوط بالحفاظ على هذا الحس¡ فأشد ما يخشاه العربي هو اللوم. واللوم هو الوسيلة التي تُربي المجتمع على الأخلاق فدعونا نرى بعضها..
وعلى سبيل المثال عندما يعق الابن والديه ينتشر الخبر فتقاطعة الناس وتنبذه نبذا حتى أنه لا يحصل على عمل أو زوجة! وعندما يرفع الصغير عقيرته في وجه الكبير تحتقره العامة قبل الخاصة وهناك كتاب عظيم تحت عنوان (خوارم المروءة) وهو يرصد كل ما يتنافى والمروءة العربية¡ ومنها الأكل في الطريق¡ عقد اليدين خلف الظهر أثناء المشي¡ الضيافة الناقصة وأشياء دقيقة قد لا تخطر على بال أحدº هذه الأمور إذا توفرت إحداها في أي فرد لا تقبل شهادته أو يطعن فيها فهل إلى هذا الحد حرص أجدادنا على الأخلاق ¿! هذا ما جعلهم يسودون العالم في يوم من الأيام.
عندما يدلف الضيف يماط له الفراش إذا ما كان مرغوبا فيه وهذه إشارة شفيفة كعلامة في الاستضافة من عدمها والآخر يفهم كنه هذه العلامة كغيرها من لغة الخطاب غير المنطوق¡ ولذا يقال (فلان لا يماط له فراش)! أما في أدب المجالس فلا يستطيع شاب صغير تصدر المجلس وهناك شيخ كبير أو مسن فمراتب المجالس لها علامات يحترمها الجميع كل حسب مكانته¡ حتى أعضاء (الذبيحة) كل مفصل منها له شخص يحدده خبير تقسيمها فلا يعطى كبير القوم مفصل الساعد -على سبيل المثال- لأنه يطلق عليه (الحقير) لدى العرب فلكل موطن من اللحم مستوى اجتماعي يحترمه الكل ولا يعترض عليه¡ أما القهوة وتعاليمها فلها مدارج ومعالم فتسكب عند الخبر بوفاة عزيز¡ وتنكس الدلال ثلاثة أيام لفقد كبير منهم¡ ولها أربعة فناجيل(الهيف¡ الضيف¡ والكيف ثم فنجان السيف) والأول للدلالة على الأمان والثاني للتحية والثالث للحاجة أما الرابع فهو بمثابة تحالف وعهد¡ فيتم قبوله أو رفضه إذا ما لم يُستحب هذا العهد الملزم! ثم إنه يتحتم إحضار ثلاثة صبابين أو أكثر إذا ما كان في المجلس أكثر من منزلة اجتماعية متساوية لكي لا يُعطى أحد منهم قبل الآخر ويتحتم مناولة الفرسان أولا إذا لم يكن من هو مسنا!
وفي أرض الجنوب هناك ما يسمى (الجط) وهو نقش معروف على الجدرانº لم يخطر ببال أحد منا أن وظيفته هي التعرف على منزلة المضيف في ربعه فلا يجرؤ فقير أن يرفع الجط على الحائط بما يفوق مكانة الشيخ احتراما لكل من هو أعلى منه¡ وإذا ما عاد أحد من سفرته كان لزاما أن يوزع كل ما أتى به على ربعه فلا يبقى له إلا مثل أحدهم ولذا يستقبلونه بالأهازيج والفرح.
دقائق أمور التعامل لا يحددها سوى الوجدان الجمعي والخوف من اللوم من المجتمع نفسهº لأنها تمثل للواحد منهم معلما من معالم الشرفº وللشرف العربي شأنه من هذا الإرث.
نحن مجتمع لانزال نحترم الأخلاق¡ إلا أن الثقافة الوافدة تفت في عضد الأجيال المتلاحقة ولذا فأعتقد أن المجتمعات تصبح في خطر إذا ما تجاهلت الحرص على هذا الحس الشفافº فالمجتمع هو خير مربٍº ونحن نرى الكثير من التفريط في الإحساس باحترام الآخرين¡ والحرص على شفيف الخطاب وإلا فقد الفرد جزءا من شرف المعاملة والتي نحن منبتها.




إضغط هنا لقراءة المزيد... (http://www.alriyadh.com/1566405)