المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من اللوفر إلى «الجراند آرك»



المراسل الإخباري
09-29-2018, 06:29
http://www.qatarat.com/
باريس بطبيعتها التخطيطية تشكل لغزا فراغيا يصعب الوصول فيها إلى توجيه مؤكد¡ من يمشِ في شوارع المدينة الإشعاعية فسيجد نفسه في محطة غير المحطة التي كان يقصدها¡ الشوارع متداخلة¡ ويقود بعضها إلى بعض بشكل «عنكبوتي» إلا هذا المحور الاحتفالي الذي يمتد من «اللوفر» إلى مبنى الجراند آرك..
وأنا أنظر من المطل العلوي من مبنى «الجراند آرك» في منطقة الدفاع في باريس¡ بدت لي أجزاؤها التي بنيت في القرن التاسع عشر واضحة¡ أو على الأقل الجزء الأكثر شهرة منها¡ وهو شارع الشانزليزية وساحة الكونكورد وقبلها قوس النصر. باريس بطبيعتها التخطيطية تشكل لغزا فراغيا يصعب الوصول فيها إلى توجيه مؤكد¡ من يمشِ في شوارع المدينة الإشعاعية فسيجد نفسه في محطة غير المحطة التي كان يقصدها¡ الشوارع متداخلة¡ ويقود بعضها إلى بعض بشكل «عنكبوتي» إلا هذا المحور الاحتفالي الذي يمتد من «اللوفر» إلى مبنى الجراند آرك. إنها رؤية عمدة نهر السين في الفترة من 1853 إلى 1872م¡ وأقصد هنا «هوسمان» (1809-1891م)¡ الذي وضع منهج «البوليفارد» في باريس¡ وحولها إلى مدينة احتفالية¡ حتى إن الرئيس ميتران عندما فكر في بناء منطقة الدفاع في الثمانينات خارج باريس التاريخية¡ جعل ساحاتها وأهم مبانيها على المحور البصري نفسه¡ الذي وضعه «هوسمان» قبل أكثر من قرن.
في منتصف هذا الشهر (12 و13 سبتمبر الجاري) شاركت في ملتقى الشركاء الأول بدعوة من «اليونسكو» لجائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد¡ وبصرف النظر عما لهذا الملتقى من أهمية كبيرة في توثيق العلاقات الثقافية مع شعوب العالم¡ وإبراز دور المملكة في خدمة ودعم الثقافة الإنسانية¡ كنت أبحث عن المكان الباريسي الذي يجعل من هذه المدينة مختلفة¡ خصوصا أننا¡ معشر المعماريين¡ على خلاف دائما حول «الهوية المعمارية» التي يبدو أننا لن نصل إلى اتفاق حولها. في اجتماع الشركاء بـ»اليونسكو» كان وزير التعليم حاضرا والأمين العام لـ»مسك الخيرية» والدكتور عبدالله الفوزان من مركز الحوار الوطني¡ وكان النقاش الذي يدور في المحاضرات والورش حتى اللقاءات الجانبية يتمحور حول التحول transform وإعادة البناء reform حتى نائب الأمين العام للأمم المتحدة قدم عرضا حول التحولات التي تمر بها المنظمة الدولية¡ وبالطبع هذا يتماشي مع رؤية التحول وإعادة البناء التي تبنتها المملكة.
خرجت من مبنى «اليونسكو» في شارع «سافرن» وأنا عازم على أن أمر بالتجربة المكانية التي أراد أن يصنعها هوسمان قبل 150 عاما¡ فالرؤية بالنسبة لي هي نظرة عميقة للمستقبل¡ وأن تحقق الرؤية وتجعل من يأتي بعدك يحترمها ويتبعها عفويا¡ فهذا يعتبر أمرا عظيما. بالطبع كنت مكتظا بالأفكار التي كنت للتو أستمع لها في ملتقى الشركاء¡ وآثرت أن «أهضمها» وأنا أسير على قدمي بمحاذاة نهر السين حتى وصلت مبنى اللوفر¡ ثم قررت العودة مجددا إلى وسط باريس مرورا بساحة الكونكورد و»الشانز» الذي يمتد كمحور إلى منطقة الدفاع. هذه الرؤية المكانية التي أرادها هوسمان في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر شكلت هوية باريس حتى اليوم¡ ولم يستطع أحد أن يتجاوز هذه الهوية.
الباريسيون مغرمون بتنظيم الأشياء ووضعها وفق ترتيب له معنى أو هكذا شعرت خلال زياراتي العديدة لهذه المدينة¡ وقد اعتبرت هذه الخاصية أحد معايير النجاح لأي رؤية¡ أن تكون منظما وواثقا من النتائج البعيدة التي ستصل لها رؤيتك. عندما دخلت ساحة متحف اللوفر التفت للوراء لأتأكد من جود المسلة الفرعونية في الكونكورد وقوس النصر على نفس محور البوابة الخاصة باللوفر. شعرت بمتعة بصرية/مكانية ثم التفت للهرم الزجاجي الكبير وسط الساحة الذي يتموضع على المحور نفسه¡ وتذكرت الجدل الكبير الذي أثاره الباريسيون حول هذه الكتلة الزجاجية وحول مصممها ذي الجذور اليابانية (آي أم بي) في نهاية الثمانينات الميلادية¡ وكيف أصبحت الآن ضمن المخيلة الباريسية المعاصرة. لعلها ميزة أخرى في الباريسيين أنهم دائما يرفضون الأفكار الجديدة (مثلما حدث في برج إيفل ومركز جورد بومبيدو) لكنهم عندما يتبنون الفكرة يؤمنون بها ويرتقوا بها إلى عنان السماء.
في عودتي إلى مكان سكني عبر حديقة الإليزية في طرف «الشانز» كنت أفكر في الفرص المكانية الكبيرة التي أتاحها «المخطط الهوسماني» لباريس¡ وكيف أن بعض الأعمال التي نقوم بها اليوم إما أنها ستبني مستقبلنا بشكل واعد وإما أنها ستؤثر فيه سلبا. من يملك القدرة على استشراف المستقبل¡ مثل هوسمان¡ قلة جدا وغالبا لا يجدون الفرصة لتنفيذ أفكارهم¡ وغالبا ما تزاحم المكاسب الآنية السريعة المكاسب البعيدة والعميقة التي تضرب بجذورها في عمق المجتمع وتسمح له بالتجدد باستمرار.




http://www.alriyadh.com/1707534]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]