المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مشكلة الباحثين



المراسل الإخباري
05-17-2021, 12:32
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
إن الحكماء الأولين، والنّبهاء المتأخرين، لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من لغة متواضعة، وكلمات في المعرفة رزينة هادئة إلا بعد ما جرّدوا أنفسهم من الانسياق الراسخ لما سبق إلى الذهن وعلق به، وعانَوْا في سبيل أطْرها على التحرّي عن الحق والبحث عنه..
الرصد لأي ظاهرة يُعين على فهمها، والنظر بعدلٍ فيها، وما لم تقُم بتتبع ما تدرسه، وترغب أن تصل فيه إلى كلمة سواء، تُرضي تطلّعك، وتزيد تفهمك؛ فلن تخرج عن مألوفك، ولن تتزوّد بما يُمكّنك من مغادرته وتوجيه النقد، إن كان يستحقه، إليه؛ هذه مسألة قضي فيها الأمر، فما لم يستقصِ المرء الأمور فلن تتساوى عنده وجهات النظر المطروحة، وسيبقى حليفَ ما نشأ عليه ودان به محيطه، إنّ هذه الفكرة يُمكنني بيانها وتجليتها في المعرض الآتي:
نحن جميعاً، إلا الندرة النادرة، نميل مع ما نسمعه أولاً، وهذا بدافع حسن الظن والطيبة وهما من المشتركات بين الناس، فحين يشتكي عندنا أحد نغضب ممن آذاه وأدخل الضيق عليه، ولا نُفكر أن الشاكي قد يكون هو البلاء المستطير، ربما لأن العاطفة تغلب علينا وتملك في كثير من المواقف زمامنا، وتدعونا إلى الاستجابة الفورية، وربما لأمور أخرى ليست في بالنا؛ لكننا حالما نشرع في الاستقصاء، ونبذل جهدنا فيه، ونطّلع على وجهات نظر الآخرين حوله، ونسمع من الجميع؛ حتى تخفّ حماستنا وتخفت أصواتنا بل ربما رأينا الشاكي هو الحقيق أن يُشكى ويُلام ويؤخذ الحق منه، وما كان لنا أن ننتهي إلى هذا لولا تفتيشنا وراء القصة وتفتيح عيوننا على جوانبها وتقليبها ظهراً لبطن، لقد كدنا أن نُضحّي بالحق وصاحبه، وننتصر للخطأ وناصره، ويفوت علينا ما كنّا نُحدث أنفسنا بتأييده والوقوف معه.
إنّ معظم الباحثين علّتهم الوقوف على ما عرفوا، والانتهاء إلى ما انتهى الناس إليه قبلهم، وقصتهم مع الأفكار والآراء والمذاهب كقصتنا التي حكيتُها لكم أيّها الكرام قبلُ؛ فهم لم يبذلوا جهداً في تعرّف وجهات الرأي الأخرى، ولم يخطر في قلوبهم وعقولهم ما خطر في بالنا يوم اشتكى رجل إلينا رجلاً؛ فذهبنا نتحرّى، ونتلمّس القضية، ونُمعن فيها النظر، فقادنا ذلك إلى أن الحال، كما يقول إخوتنا المصريون، من بعضه، ولولا توفيق الله تعالى ثم الخطوة الأولى التي خطوناها في الطريق؛ ما كنّا انتهينا إلى أنّ الشاكي كان أحرى أن تكون الشكوى ضده، ويُعقد له مجلس المساءلة والعقوبة وحده!
يجب أن نؤمن جميعاً بهذه المسألة إيمانًا يُباشر قلوبنا، ويقبع في ثنايا عقولنا، ويلفّ بعمق وجودنا؛ حتى نعي بحق ما نُريده ونصبو لتحقيقه في دروب المعرفة والفكر والثقافة! إنك لن تنزع عمّا وجدتَه، ولن تتحقق من صدق غيره، ما لم تتنازل طوعاً عن قناعاتك السابقة، وتُرغم نفسك على المضي في السبيل الأخرى حتى نهايتها، وتُفسح المجال للقول الجديد أن يتسلل عبر نافذة روحك وعقلك إليك.
إنّ أي قضية تكون محلّ درس ونظر، ويبتغي المرء فيها أن يُرسي على برّ ويُوفي عليه؛ فرضٌ عليه أن يتحرّر من صلابة انتمائه وانحيازه، ولا أقول يتخلّص منه؛ لأن ذاك عندي محال أو قريب منه، ولن يحدث ذلك إلا حالما يدعو نفسَه، ويُوطّنها، ويُقنعها بالمضي معه حتى نهاية الطريق، فيأخذ الكتاب بقوة؛ لأن النفس شرود، وتعشق ما عليه نشأت، وتكره النُّقلة من رأي إلى غيره، وفُطامها عنه صعب شديد، لا يستطيعه إلا كَمَلةُ الناس وخيارُهم؛ كما أن المرء يعجز إلا قليلاً عن تغيير عادةٍ له في مأكل ومشرب، فهو كذلك في رأي خرج عليه وفكرة شبّ عليها، بل هو في ساحة الأفكار والآراء أعجز وأقعد؛ لأنه يستطيع أن يختبر المأكل والمشرب، ويعرف العلة التي لها فضّلهما على غيرهما، ويسهُل عليه أن يتيقن ما في سواهما من مذاق صالح وطعم مليح، ولا يملك ذلك في الأفكار إلا بعد جهد جهيد وعمل شاقّ، وأشقّ ما عليه هو أن يُحرّر نفسه قليلاً قليلاً من سطوة فكرته السابقة، وهيمنة رأيه المتقدم؛ حتى يصبح قادراً على تصيّد ما يُقوّي الفكرة الجديدة ويلمس وجاهتها ومَنْطقيتها.
إن الحكماء الأولين، والنّبهاء المتأخرين، لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من لغة متواضعة، وكلمات في المعرفة رزينة هادئة إلا بعد ما جرّدوا أنفسهم من الانسياق الراسخ لما سبق إلى الذهن وعلق به، وعانَوْا في سبيل أطْرها على التحرّي عن الحق والبحث عنه، وهم في هذا يُشبهون المحقق في الجرائم حين يكون هناك بصيص أمل خافت للقبض على المجرم، وإدانته بجريرته، فيكُدّ عقله، ويُشقي روحه، ويكدح ليله ونهاره، ويصل بعد كلّ هذا إلى توجيه أصابع الاتهام كلها إليه؛ فلنكنْ للأفكار والآراء كما كانت حال هذا المحقق وإلّا فلن نحصل منها على شيء، وستكون رحلتنا معها نزهة عابرة وصحبة طارئة، فلا نحن انتفعنا منها، ولا هي استفادت منا، ويبقى الداء الدويّ والمرض العصيّ بعد مواجهة النفس، وما تربّت عليه، في إقناع المحيط وفريق الفكرة السابقة الذين كانوا على حالٍ مثل حال باحثنا، وهي مرحلة أشدّ وعورة وأصعب مسلكاً!




http://www.alriyadh.com/1885840]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]