المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإمام مالك والظنون



المراسل الإخباري
05-25-2021, 01:34
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
ولستَ تخطئ أثر الظن في ترثنا الإسلامي، ولا يغيب عنك دوره، فقد ورثنا من الأقوال والآراء والاتجاهات، وفي جميع دوائر العلم والمعرفة، ما لا يُستطاع فهمه، والوعي به؛ إلا مع حضور الظن وعدّه أساسا له، ففي العقيدة أمطرنا الماضي بنحل كثيرة، وفي الفقه مثله وقريب منه، وليس سبيل الشعر ونقده ببعيد عنهما..
الحياة محكومة بالظن الغالب، وليس اليقين القاطع، والظنون هي مادتها ونهرها الجاري، ويقينك أنّ ما تَقَدّمك ظنون يدعوك للبحث والنظر، ويدفع بك في سبيل المراجعة والتفتيش، ولو أنّنا، نحن البشر، استقبلنا ما كان قبلنا على أنّه حقائق نهائية، ويقين لا يُساءل؛ لما طوّرنا العلوم، ووسّعنا دائرة الاكتشاف، واستخرجنا خيرات الأرض، ومضينا خطوات كبيرة في معرفة أنظمة الحياة ورصد تغيراتها.
الظن إذن هو قائدنا، وله فضل عظيم علينا، به ضربنا في آفاق المعرفة، ومضينا في دروبها، وحملنا ما وصلنا عن الناس قبلنا على الآراء الراجحة والظنون الغالبة، فوجدنا مساحة للقول، وعثرنا على ميدان للحديث، ورأينا أنّنا حقا لم نُخلق عبثا، ولا وُجدنا سُدى، وأنّ أعزّ ما زوّدنا به الخالق الحكيم، وهو العقل، هو أوضح الحجج وأبين البراهين على أنّنا لم نُخلق سدى، ولا كان وجودنا عبثا، وحسبنا من هذا الخَلْق الكريم أنّ كلّ ما يُعجبنا من حكمة، ويسرنا من اختراع، ويُسهّل حياتنا من كشف؛ راجعٌ إليه، وخارج منه، وما كان للعقل أن تزدهر به الحياة، وتنهض به الأمم، وتتقدم به العلوم والفنون؛ لولا الظن الذي كان وقوده للحركة، وزاده للرحلة، ورصيده للبناء والعمارة.
ولستَ تخطئ أثر الظن في ترثنا الإسلامي، ولا يغيب عنك دوره، فقد ورثنا من الأقوال والآراء والاتجاهات، وفي جميع دوائر العلم والمعرفة، ما لا يُستطاع فهمه، والوعي به؛ إلا مع حضور الظن وعدّه أساسا له، ففي العقيدة أمطرنا الماضي بنحل كثيرة، وفي الفقه مثله وقريب منه، وليس سبيل الشعر ونقده ببعيد عنهما، ومثل هذه ما كان من مدارس اللغة والمذاهب فيها، ولولا الظن، والنظر إلى ما كان به، لما كان هذا التراث الضخم، والمؤلفات العلمية الغفيرة، وهذا فضلٌ كبير، أن يستمع المرء إلى وجهات نظر مختلفة، تصقُل عقله، وتُهذّب وجدانه، لن يجود به اليقين لنا، لو كان هو الحاكم للحياة والقائد لها، فَلْنعطِ الظن ما يستحق من تقدير، ولنمنحه ما يجدر به من ثناء.
والظن مكانته ودوره لا يُؤخذان من مجمل التاريخ، ولا يُستخلصان فقط من عمومه، بل يجد الإنسان في آثار الأئمة الأولين ما يكشف عنهما، ويوضّح قيمتهما، وإيمانَ الأولين بهما، ومن تلك الآثار ما يرويه أبو نُعيم الأصبهاني عن الإمام مالك في (حلية الأولياء)، وهما روايتان جليلتان، وفي كلتيهما معنى طريف، ينبغي الإصغاء إليه، والانتفاع به، وكافينا أنّهما صادران من إمام كبير، صار له أتباع، ونشأت بعده مدرسة، وفشا مذهبه في أقطار إسلامية كثيرة قديما وحديثا، وبقي علينا أن نقفو آثاره، ونمضي على سنته، و"من سنّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها..."، ونُعلّق كلمتيها في مجالسنا ومنتدياتنا!
كان هذا الإمام الجليل يُحيط به الظن في فتاويه، التي يُفتي بها المسلمين، ويُجيب أسئلتهم فيها، ويرى أنّ قوله في هذه المسألة أو تلك ما هو سوى ظن، بدا له فأجاب به، ولعله يكون في ظنه مخطئا، وفي فتواه ساهيا، وهذا هو مضمون الرواية الأولى التي وعدتكم به، ورواها الأصبهاني قائلا: "قال سعيد بن سليمان: "قلّما سمعت مالكا يفتي بشيء إلا تلا هذه الآية:( إن نظنّ إلا ظنا وما نحن بمستيقنين)".
في هذه الآية الكريمة دستور معرفي عام، تدلّ الحياة على صحته، ويشهد التاريخ عليه، ولا يضرّه أنْ ورد على ألسنة منكري الساعة في الآية الكريمة، فهم مخطئون في شكهم فيها وظنهم عنها، والإمام مصيب حين اتّخذه شعارا، وجعله له مبدأ، وشكر الله للأصبهاني حكايته، وجزى الله خيرا سعيد بن سليمان على روايته لنا ونقله إلينا، فنحن في هذه الأزمان أحوج ما نكون إلى مثل هذه الأقوال التي تجعلنا ننظر إلى كثير مما ورثناه أنّه ظن، يُنتظر منا مراجعته، ويُرتقب منا اختباره، وليس التسليم له، والوقوف دوما معه.
ولم يقف الظن بهذا الإمام عند هذا، بل تجاوزه كثيرا، وخطا بعده خطوات واسعة، دفعته أن يترك الإفتاء، إفتاء مسلمين قطعوا إليه مئات الأميال، وضربوا نحوه أكباد الإبل، وكانت شُقّة دارهم وبعدُ مزارهم حاديه إلى ترك الفتوى، وداعيه إلى قوله المأثور عنه: "لا أدري"، وكلّ ذلك سببُه خوفُه أن يُفتي بقول، ثم يبدو له غيره، ويظهر الصواب فيه، ثم لا يجدهم في بلاده إذا أراد إبلاغهم به، وهذا هو منطوق الرواية الثانية التي حكاها الأصبهاني عنه، وقال فيها الإمام لسائله الذي يأسى لحال هؤلاء المسافرين:" يا عبدالله، يأتيني الشامي من شامه، والعراقي من عراقه، والمصري من مصره، فيسألونني عن الشيء لعلي أن يبدو لي فيه غير ما أجيب به، فأين أجدهم؟" هكذا انتهت الحال بهذا الإمام حين كان الظن بما عنده صاحبه وضجيعه، فهل ننتفع بمذهبه فيه؟




http://www.alriyadh.com/1886868]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]