المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحياة الجديدة.. أطلس أدبي لتحولات المدينة



المراسل الإخباري
06-05-2021, 15:52
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
كل الأصوات المألوفة بالنسبة لي أصبحت كما لو كانت تأتي من خارج الأرض، فكل مدينة لها أصواتها الخاصة بها التي تساهم في ترسيخ أمكنتها في الذاكرة، وتعمل على حياكة هويتها، كما أن لكل مدينة رائحة تميزها..
يتركز اهتمامي بالرواية في قدرتها على رصد التحولات العمرانية والاجتماعية ورسم صور ذاتٍ متحركة للمدينة، ويكمن هذا الاهتمام في أن مجموع الإنتاج الأدبي المتراكم عبر السنوات ينتج بالضرورة "خارطة طبقية" تصور الطبقات العمرانية لأي مدينة كما نرى ذلك في الأطلس الأدبي الذي أصدرته الدكتورة سامية محرز للقاهرة، وفككت فيه شوارع المدينة ومكونها العمراني الذي تناولته روايات الكتاب المصريين خلال مئة عام. ويبدو أن المعماريين أنفسهم يهملون هذا الجانب المهم لفهم الصورة الذهنية الأخرى التي تتشكل حول المدن التي يساهمون في صناعتها، على أن الروائي "أورهان باموق"، وهو المعماري الحائز على جائزة نوبل عام 2006، كتب رواية صادمة في العام 1994م أسماها "الحياة الجديدة"، وهي رواية تبدأ بتأثير الكتاب، فالراوي قرأ كتاب أخرج حياته عن مسارها الطبيعي وجعله يبحث عن حياة جديدة، وخلال بحثه عن هذه الحياة، التي استمرت قُرابة العشرين عاما، يمر بمشاهد المدن التي كانت بسيطة ومتواضعة ومختلفة إلى أن قال: "لم أستطع فهم كيف تحولت هذه المدن الصغيرة البريئة وشوارع الأحياء التي بدت وكأنها تخرج من رسوم مصغرة.. إلى مجموعة من المراحل المخيفة التي كانت نسخا كربونية من بعضها البعض، مليئة بعلامات الخطر ونقاط التعجب".
يثير "باموق" في روايته التناقضات الكبرى التي عادة ما تواجهها المدينة - أي مدينة - فعندما يرصد حياة الشارع ويرى الأطفال يمارسون حياة تبعدهم عن جوهر الأخلاق يقول: "إن سقوط الحضارات العظيمة وتحطم ذكرياتها يشار إليه أولا بالتداعي الأخلاقي للصغار، فالصغار لديهم القدرة على نسيان القديم بلا ألم وبنفس سرعة تخيلهم الجديد". فهو يرى أن المدينة تمثل استمرار جوهر الهوية وجوهر الأشياء لكن ليس عن طريق المحافظة على الأشياء المادية فقط، لذلك يقول: إن خطأ الدكتور فاين أنه كان ماديا يضع ثقته في الأشياء، مفترضا أنه يستطيع أن يمنع إهدار الروح الموروثة في الأشياء بواسطة حفظها.. أدرك الدكتور فاين أنه لا يستطيع إنقاذ فقدان أرواحنا الضائعة بمنع فقدان الأشياء". ويبدو أن "الدكتور فاين"، وهو أحد أبطال الرواية، كان يعتقد أن الوقت أو الزمن موجود في جوهر الأشياء، فهذه الأشياء هي التي تشعرنا بمرور الزمن. وكأنه يشير هنا إلى اكتشاف "ويلارد ليبي" عام 1949م الذي توصل إلى إمكانية استخدام الكربون لقياس عمر الأشياء من خلال المكونات العضوية داخلها، الوقت موجود في جوهر الأشياء وتحولات هذه الأشياء هي التي تشعرنا بالاغتراب، لذلك فإن الصغار لديهم قدرة على التنازل عن القديم دون ألم، هنا "الأشياء لها قدرة على التذكر، مثلنا تماما، الأشياء أيضا لديها القدرة على تسجيل ما يحدث لها وتحتفظ بذكرياتها، ولكن ليس على وعي بهذا، المواد تسأل بعضها البعض، تتفق، تهمس لبعضها البعض، تبدأ بعزف مقطوعة موسيقية، مكوّنة الموسيقى التي نسميها العالم".
الصدامات والمتناقضات وحركية الأشياء الدؤوبة في المدينة أجبرت "باموق" على أن يقول لنفسه "يجب أن أتعلم كيف أنظر، لكي أتمكن من الرؤية"، فالنظر يدخلنا عالم الإدراك لكنه لا يدخلنا عالم الفهم، فبعد الإدراك تبدأ عملية الفهم وهي عملية طويلة متسلسلة تدخل فيها الخبرة المعرفية السابقة بكل ذاكرتها القريبة والبعيدة والمهارات وتنتهي بالرؤية أي الفهم. ولأن الرواية عادة ما تجمع بين الصورة المادية والصورة الذهنية المتخيلة لذلك فإن هذه الصورة تسجل كل ما يمكن أن تلتقطه الحواس، فالكاتب ينصت "إلى صوت المدينة اليومي، رنين جرس بائع الزبادي في الشارع، محركات السيارات، كل الأصوات المألوفة بالنسبة لي أصبحت كما لو كانت تأتي من خارج الأرض"، فكل مدينة لها أصواتها الخاصة بها التي تساهم في ترسيخ أمكنتها في الذاكرة وتعمل على حياكة هويتها، كما أنه يقرر أن لكل مدينة رائحة تميزها، فها هو يقول "قادتني الرائحة العميقة للمدينة الفاسدة إلى موقف الحافلات الذي يفوح برائحة البحر والهامبورجر والحمامات العامة والعادم، رائحة الجازولين والقاذورات"، الرائحة جزء من هوية المدينة، لكنها قد تكون هوية مؤقته فكثير من الأحيان تقودنا الرائحة للمكان وتشعل ذاكرتنا.
"الحياة الجديدة" تنظر إلى المدينة كمشاهد مركبة رباعية الأبعاد، تجعل من الزمن الكامن في مشاهد المدينة المتحولة البعد الذي يصنع المشاهد المتغيرة، يصف بعض مشاهد المدينة المتحولة بقوله: "تخيلت أن الضوء يتسع ببطء ليشملني داخله، في البداية كان مثل ضوء يتسرب من شرخ في الأرض، ثم يصبح قويا أكثر فأكثر وينتشر ليشمل العالم كله حيث مكاني أيضا"، ماذا يفعل النور بالأشكال وما يحيط بنا من عوالم؟ كيف يتغلغل داخل نفوسنا ويوجهنا لنرى الأشياء كما يريدها. "الأضواء التي تنطفئ في المنطقة كلها وفي المدينة، حزن الشوارع الخالية المبللة بالماء، نداء بائع البوظة وهو يدور مرة أخيرة حول المبنى، صياح مبكر لزوج من الغربان، صوت القطار الصبور على القضبان بعد مرور آخر قطار بفترة طويلة"، كل هذه المشاهد الموجعة هي صور ذهنية لمدن بائسة غمرتها العولمة بسطوتها وهمجيتها التي لا ترحم الخصوصية المحلية.
تحدد الرواية هويات المدن على شكل مشاهد تنطبع في الذهن وتصبح جزءاً من الصورة التي لا يمكن أن ننفصل عنها.. "مشينا بطول حوائط الحديقة المنخفضة، المباني الحزينة، الشوارع الخالية من الأشجار، الواعية بالحركة الميكانيكية لرفع وهبوط أقدامنا على الرصيف، أتذكر المدن الثلاث التي تلت، واحدة كانت عاصمة مداخن المصانع، والثانية عاصمة حساء العدس، أما الأخيرة فهي مدينة الذوق السيئ"، بقي أن أقول إن "باموق" يتتبع في روايته "الحياة الجديدة "دوستويفسكي" في روايته "الجريمة والعقاب" فهو يعد الخطوات ويحلل الشخصيات وكأنه يرسمها ثم يشرحها ويربطها بالأمكنة التي نشأت فيها.




http://www.alriyadh.com/1889150]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]