المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سنابل الآذان



المراسل الإخباري
07-09-2021, 21:51
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
كنتُ أتصفح موسوعة الموروث الشعبي، وهالني ما وجدته من عنف يكتنف هذه الحكايات؛ فتساءلت حينها: يا تُرى هل هذا التنازع شرق وطننا العربي وغربه نتاج هذه الحكايات (الحواديت)، أم أنها مسألة قدرية كما يصنفها الدارسون؟..
إن الحكايات الشعبية لا تزال تستلهم وتعزف معازفها في آذان الأطفال، فتختزن في صندوق أسود أسماه الفلاسفة المسلمين بـ(المتخيلة)؛ والمتخيلة هذه هي منطلقات الإلهام مستحسنا كان أم مقبحا. هذا الإلهام الذي يسري في فضاءات الثقافة، قد يعتقد البعض أنه بذرة مشحونة بطاقة ما، ثم يذهب أدراج الرياح، إلا أنه على غير معرفة أو دراية يتسرب إلى مكمن التكوين الإنساني، فيخلد خلود الزمن شأن كل المرويات التي اكتظت بها أرفف المكتبات من تراث قديم، حوَّره أجدادنا، فزادوا عليه أونقصوا، حتى يلبس ملبس الزمن الذي يعايشه الحاكي أو الحكواتي.
إن حكايات جداتنا لا تخلو من العنف والنبذ والخوف والهلع، ونحن نتحلق حولهن في شغف دون مغادرة، وهن تأخذن من واقعهن سربالا لحكايات قديمة ظنن أنهن يجهزننا للنوم والراحة، وفي حقيقة الأمر أن هناك ما هو يتوجب الدراسة والتفسير عن إثر تلك الحكايات على تكوين الذهنية العربية، وعلى الشخصية نفسها ومسارها الذي تتخذه بقية حياتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
إن هذا الحكي الشعبي من سير ومن ملاحم ومن حكايات الجدات يجعل هذا العالم اليوم يتساءل: هل هذا العنف وهذا الدم والكراهية بين عالم - هم في ذات الوقت أبناء عمومته - موروث شعبي أم قدري؟
ففي الحكايات الشعبية التي كنا نخضعها للتحليل وللدراسة، نجد جلها - إن لم تكن كلها - تحتوي على إرث ثقيل من الحروب والقتل والسلب والنهب، وأحينا مليئة بالرعب، وقد علل ذلك أرسطو في نظرية الدراما، بأنها تُحدث التطهير، حيث إن زيادة الانفعال يطهر المشاعر عن طريق تأثيراتها وأهمها (الإحلالية) بأن المتلقي يشعر بالراحة لأنه لم يتعرض لما تعرض له البطل. ولكن إذا ما نظرنا لرواسب تلك الحكايات والتي تُستلهم في أعمال درامية في بعض الأحيان، سنجد أن لها تأثيرات سلبية وخاصة على الشخصية العربية، وذلك يرجع إلى أن الشخصية العربية تختلف كثيرا - في نوع التأثير - عن الشخصية الغربية، قد يكون حميدا على الأخيرة كما علل أرسطو، إنما الشخصية العربية فهي تختلف بأنها شخصية تتأثر بالقول، لأننا شعوب مصنفون بأننا شعوب قولية تبعا لموروثنا القولي؛ وعلى هذا تكون تربية الوجدان عن طريق الأذن وليس عن طريق البصر كما في الغرب، فإذا ما نظرنا إلى الفنون الغربية سنجد أنها فنون بصرية تبعا لتكوين الشخصية لديهم، وبهذا كان للأذن دور كبير في صياغة الرأي أكثر من العين، فهذا الشاعر بشار بن برد يقول:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة .. والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وهذا البيت يبين كيف يكون التأثر السمعي عند العربي عنه لدى الغرب، وكيف يكون للحكايات وفنون السرد أثر كبير، ولذلك كان يتوجب علينا الرجوع إلى الموروث الشعبي من حكايات، ونرى كيف يكون أثرها طبقا لواقعنا المعاش وظروفنا الراهنة وثقافتنا المتأرجحة بين الشرق والغرب.!
ألم نرَ ملاحم جلجامش، والزير سالم، وسيف بن يزن وغيرها التي تعج بالقتل والدم والحروب؛ ونحن نقصها بفخر الشجاعة والإقدام، بينما تتسرب تلك النوازع إلى ذواتنا بأن السيف سباق والأعيرة جاهزة والمدافع تفغر أفواهها نظرا لما حكمت به به آذاننا من أن هذه الأفعال مقدامة وبطولية.
كنت أتصفح موسوعة الموروث الشعبي، وهالني ما وجدته من عنف يكتنف هذه الحكايات فتساءلت حينها: يا تُرى هل هذا التنازع في شرق وطننا العربي وغربه نتاج هذه الحكايات (الحواديت)، أم أنها مسألة قدرية كما يصنفها الدارسون؟
فأرجح الإجابة عن السؤال، بأن للآذان دورا كبيرا في هذه البنية للشخصية المتعجلة سريعة الاستثارة، ومن هذه الحكايات على سبيل المثال حكاية (قاتل التسعة والتسعين رجلا) وهي حكاية شعبية من سورية العليا محورها أن رجلا كان مقدرا عليه أن يقتل مئة رجل، لكن قومه غضبوا عليه وأحرقوه في النار حتى أصبح جسدة رمادا يتطاير في الهواء بعد أن قتل تسعة وتسعين رجلا، إلا أن امرأة عبرت فاستنشقت الرماد فحملت - تجاوزا - بطفل من صلب هذا الرجل، ما أن يتكلم حتى ينطق الحكمة، هذا الابن الموعود - كابن حرام - ويكمل فعل أبيه، الذي أصبح رمادا محترقا، حين استدعى حاكم المدينة هذا الطفل ليسأله عن تفسير رؤياه، فطلب الابن أن يعطيه تاجه ثم خنجرا فأعطاه ما طلب، ثم بدأ الحاكم يروي له رؤياه بأنه رأى سكينا تأكل (الجبسة) أي البطيخة، فطلب الغلام أن تحضر زوجة الحاكم وخادمته، فحضرتا، فأمر برفع ثياب الخادمة فإذا بها رجلا متنكرا في ثياب امرأة فطعنه بالخنجر الذي في يده ثم هتف قائلا: أنا أبو التسعة والتسعين، والآن أكملت المئة.!
هذا مختصر لحكاية شعبية طويلة، تحمل في ثنياها القدرية اليونانية آنذاك، لكنها وفقا للشخصية العربية لا تحمل سوى القتل والعنف والدم على غرار بقية الحكايات التي لا نتدارسها وفقا لطبيعتنا السمعية ذات التأثر بالقول.
لذلك حينما تحركت الأمواج العالمية العاتية، لا نجد سوى أذن تسمع بلا رويَّة أو تمعن.
نعتقد أننا في حاجة إلى اختيار ما يتماشى مع تكوين الشخصية العربية في إعلامنا، وفي العروض الدرامية بجميع صنوفها، كما يجب أن نتوخى الحذر في جميع السرديات وفي (يُحكى أن)، بل يجب الإضاءة عليها وتحليلها وتفسيرها وفقا لواقعنا المعاصر.




http://www.alriyadh.com/1895390]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]