المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإبداع ودائرة الضوء



المراسل الإخباري
07-16-2021, 16:23
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
المبدع لا يمكن صناعته في ورشة أو ندوة أو محاضرة عابرة لأنه لا يمكن أن يختزن المعلومة في مساحة التذكُّر، بل هي التي تربض هناك في الذاكرة البعيدة لتخرج -فيما بعد- حين تدفق عمله الإبداعي بشكل مختلف تماماً، وكأنها مولود جديد لا يشبه أحداً..
الإبداع كلمة تتردد على آذاننا كل يوم، حتى أننا استهلكناها أيما استهلاك، مما جعلها معهودة مألوفة ممسوخة بلا تأمل أو إدراك لكُنْهها وعمق فلسفتها. والعملية الإبداعية هذه في حد ذاتها هي سر عميق، هبة من عند الله عز وجل، ولذا يقال عنها (موهبة) والأصح أننا نطلق عليها (هبة) لانها كذلك وأدق في المعنى! لكن هذا الفعل الذي يقوم به صاحب الهبة في تجلياته التي تأتيه على حين غرة، يحتاج إلى فترات كبيرة من التأمل ثم الرعاية ثم التتويج والتمويل والتفرغ والفكاك من العصي التي تعترض كثيراً من عجلات الزمن المحيطة بنا؛ ولكننا بدورنا لا نأبه بهذه الدرة النفيسة بين الأنامل وتحت الألسنة والتي تولد لا تكتسب!
الآن في بلادنا العربية نهضة تعليمية وفكرية على جميع المستويات إبان هذا الخروج الكبير من كهوف مظلمة، معَّجِزة، وقاهرة لكل من هو ذو هبة، هذا الخروج الكبير هو خروج من حصار فكري مقيت. وبطبيعة الحال إذا ما عدنا للحديث عن الإبداع فهو ذلك المارد المتجبر الذي إذا ما استشعر القيد هرب في فضاءاته التي لا ندركها، لأنه حر، والحر لا يعترف بالقيد، والقيود كانت كثيرة، والاستئثارات كانت أقوى وأشد، والشللية كانت مسيطرة لسنوات تعددت الواحدة تلو الأخرى مما أنتج لنا جيلاً يتلمس المعرفة بشغف كبير، لأنها كانت غائبة، فالإقبال على معرض الكتاب بالقاهرة من جميع الدول العربية والأجنبية خير دليل ولا نستثني ذلك الحضور الكبير للمعرض السعودي به.
فالمعرفة لغز محير لكنها وبلا شك الجذر الأكبر لكل صنوف الإبداع، والتي يتفرع منها كل ألوان الهبة الإبداعية، إذا ما وضعت في تربة مناسبة تنشد الأمان والاطمئنان وأيضاً التفرغ، أو قل شبه التفرغ فلا يستوي البطن الخاوي مع الهبة الإبداعية!
إذاً يجب أن يوضع المبدع في تربة خصبة يستقي منها بلا استئذان وبدون قيد؛ فالقيود كما أسلفنا تنتج الخوف، والخوف أكبر طارد للموهبة وللإبداع بشكل كبير.
يقول الدكتور مصري حنورة -وهو أستاذي بالاكاديمية وعالم من علماء علم النفس- صاحب كتاب الخلق الفني: "إن القيود التي تفرض على الفنان سواء كانت مادية أو معنوية أو أي قيود أخرى، تجعله يحسب حسباناً لكل فكرة يضعها أو خاطرة يسجلها، وهو في نفس الوقت يتمكن من المقارنة البصرية والسمعية بين أفكاره، ويجتهد في الربط بينها، لاستكمال النقص فيها، إما بالحذف أو الإضافة، وهذا القيد من القيود المفروضة على الكاتب أو الروائي يشبه قيد الزمان والمكان.. إنها قيود تفرض على الفنان ألا يتجاوز حدوداً معينة في المعالجة".
وبما أننا الآن نحيا عصراً من النهضة والخروج إلى النور، كان يتوجب علينا أن نبحث في مكامن المبدعين الحقيقيين وليس من يلوون ذراع الفن بألوان من الصنعة والتأطير، وإنما عن أناس يحملون تلك الجوهرة، ثم نضعهم في محيط هو ذاته ملهم يبعث على التأمل واستثارة الإحساس والعاطفة، لأن الزمن يسبق الخطوات، والمبدعون يولدون ثم يصنعون وهذه مهمة شاقة، لا تأتي بالورش والمحاضرات التي لاتتعدى عدة أيام، ثم نطلقهم يعالجون معاناة الحياة وكسب العيش وشظف الظروف المأزومة وتلك هي الأزمة نفسها.
أذكر أن (فردريش دورينمات 1921 - 1990) حينما ظهر عليه النبوغ في دراسته وفي مؤلفاته المسرحية، خُصِص له منزل وخدم وراتب شهري وكل صنوف الراحة لكي يتفرغ للتأمل والكتابة ومعالجة القضايا الفكرية والفلسفية وغير ذلك من إبداعه؛ فأثرى العالم بعطائه حتى أصبح عضواً في نادي القلم في ألمانيا الاتحادية، وحصل على العديد من الجوائز والدكتوراه الفخرية من العديد من الجامعات. مما جعل النمسا وألمانيا تتنازعان على جنسيته!
تلك هي التربة الخصبة التي يوضع فيها الفنان ليست بالمال وبالخدم، وإنما في محيط كله يحمل كل المفردات المعرفية المتفاعلة ديناميكياً في الذهن والوجدان التي تنحت الإحساس مما يعمل بدوره على التوتر الذي لا ينتهي سوى بخروج الفكرة وصياغتها وخلقها في عالم مغاير للواقع وملتق معه في الوقت نفسه بشكل أو بآخر.
أذكر ونحن طلاب بأكاديمية الفنون أننا كنا نمكث بين جدرانها منذ الصباح الباكر حتى الربع الأول من الليل ثم ننتقل إلى مشاهدة العروض المسرحية والقاعات الموسيقية والأوبرا وقاعات الفنون التشكيلية والصالونات الثقافية، حتى نعود في اليوم التالي لنناقش ما كتبناه عنها وذلك على مدار الأربع سنوات متواصلة، حينها لم نكن نعلم أنه يتم شحذ جهاز الإحساس على مبرد المعرفة على حين غرة وبدون إفصاح، فالمبدع لا يمكن صناعته في ورشة أو ندوة أو محاضرة عابرة لأنه لا يمكن أن يختزن المعلومة في مساحة التذكُّر، بل هي التي تربض هناك في الذاكرة البعيدة لتخرج -فيما بعد- حين تدفق عمله الإبداعي بشكل مختلف تماماً، وكأنها مولود جديد لا يشبه أحداً، ولذلك نخطئ حينما نظن أننا سنصنع فناناً أو شاعراً أو كاتباً في زمن قصير. وما أحوجنا هذه الأيام إلى مبدعين حقيقيين لكي نعمل على انعكاس هذا الضوء من الخروج الكبير، والذي يسطع في كل الأطر الإبداعية الفنية والفكرية، ولذا فنحن بحاجة ماسة إلى وثبة تتناسب مع عصر بات ينفث النور، وفي زمن واسع الوثبات.




http://www.alriyadh.com/1896622]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]