المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إنما الأمم الأخلاق



المراسل الإخباري
11-13-2021, 03:47
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
يصور الفيلم بوضوح أن الأمم العريقة والعظيمة قائمة على الأخلاق، وأن المجتمعات لا يمكن أن يصلح حالها من دون وجود عمق أخلاقي يحكم هذا المجتمع ويحدد مواقفه المصيرية، كما أنه يثير موضوع "الوعي الأخلاقي" العام، فإذا لم يتشكل هذا الوعي بين أفراد المجتمع يفقد هذا المجتمع البوصلة التي توجهه وتحدد مواقفه..
"كاثرين غنّ" موظفة استخبارات بريطانية تقوم بتسريب رسالة وصلت من الاستخبارات الأميركية تطلب مراقبة ممثلي مجلس الأمن من الدول غير الدائمة العضوية في المجلس، بهدف الضغط عليهم للتصويت للموافقة على شن الحرب على العراق عام 2003م. هذا هو موضوع الفيلم السينمائي "أسرار رسمية" Official Secretes، تدور أحداث الفيلم حول الموضوع الأخلاقي، فرغم أن موظفة الاستخبارات كانت تعلم أن عملها سوف يجعلها عرضة للعقوبة لكنها آثرت أن تخالف النظام من أجل حفظ حياة الناس ومنع الحرب. الحوار في هذا العمل الدرامي الواقعي بدأ من خلال طرح أسئلة جوهرية حول موضوع الأخلاق، فهل اتباع النظام والحفاظ على أسرار الدولة والمكان الذي تعمل فيه "كاثرين" مقدم على وقف الحرب والحفاظ على حياة الناس؟ هذا السؤال المأزق لا بد أن يختلف حوله كثير من الناس، وتتعدد فيه وجهات النظر وكلها تقريباً لها ما يبررها ويجعلها أقرب إلى الصواب.
ما يثير الدهشة في الفيلم هو فريق عمل جريدة "الأوبزرفر" التي وصل إلى أحد صحفييها التسريب، فقد انقسموا إلى قسمين، أحدهما يرى أهمية نشر الورقة المسربة، والآخر يرى أنها مزورة لكن بعد أن تأكدوا من وجود من أرسلها قرر رئيس التحرير نشرها. استوقفني خلال الصراع داخل "الأوبزرفر" تأثير القيم والمبادئ التي توجه المواقف وتحدد معنى المثقف الحقيقي. الصحفي "مارتن برايت" كان مصراً على النشر، وكان ينطلق من قيم ثابتة تحدد موقفه من صراع يرى أنه جائر، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع أن يقدم على هذه الخطوة دون إذن رئيس التحرير الذي وافق ليس من أجل المبادئ بل من أجل السبق الصحفي وأن "القصة مثيرة". صراع القيم الذي يعتمر داخل المثقف الغربي بشكل خاص حول المصلحة الذاتية وتحقيق المبدأ والمفارقات الكبيرة بين من يرون أنفسهم داخل هذا الإطار الثقافي وتباين مواقفهم إلى حد التناقض تصوره مشاهد الفيلم بصدق وبساطة وكأنها تقول "لا يوجد بيئة أخلاقية نظيفة بشكل كامل".
الصراع الأخلاقي لم يتوقف عند هذه المسألة، بل بدأ يأخذ بعداً آخر عندما انكشف أمر "كاثرين"، وظهر عزم جهات في الحكومة بتوجيه اتهامات لها وتجريمها، هنا تستعين بشركة محاماة تدافع عن حقوق الإنسان والحريات مجاناً يرأسها المحامي "بن أمرسون"، الصراع الأخلاقي هنا يبدأ يأخذ شكلاً آخر، لكن الملاحظ هو تكاتف الصحافة مع شركة المحاماة في الدفاع عن "كاثرين" التي أصرت أنها غير مذنبة، وأن دوافعها كانت حماية الناس، موقف المحامي "أمرسون" كان بطولياً وأخلاقياً يندر وجوده، فقد أكد لأصدقاء له في الحكومة أنه سوف يدافع عن "كاثرين" بكل ما أوتي من قوة في حال توجيه أي اتهام لها. هذا الموقف الأخلاقي المؤثر، خصوصاً مع سيناريو الفيلم المكتوب باحترافية وبلغة راقية، يحفر في عقل وقلب المشاهد عميقاً، ويعريه أمام مواقفه الأخلاقية، فإلى أي درجة يمكن أن نصمد أمام هذه المواقف الصعبة، ونقدم مبادئنا وقيمنا على مصالحنا الشخصية؟
لا أريد أن أحرق الفيلم على القارئ، ولن أتحدث عما حدث بعد ذلك لكن الموقف الأخلاقي للصحفي والمحامي ذكرني بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يصور الفيلم بوضوح أن الأمم العريقة والعظيمة قائمة على الأخلاق، وأن المجتمعات لا يمكن أن يصلح حالها من دون وجود عمق أخلاقي يحكم هذا المجتمع ويحدد مواقفه المصيرية، كما أنه يثير موضوع "الوعي الأخلاقي" العام، فإذا لم يتشكل هذا الوعي بين أفراد المجتمع يفقد هذا المجتمع البوصلة التي توجهه وتحدد مواقفه، التفاصيل التي يتطرق لها الفيلم تبين بوضوح الفرق بين "الشعارات العامة" وبين إمكانية تحويلها إلى واقع، وتعامل يومي، ومواقف سياسية وثقافية واجتماعية، ويوضح في الوقت نفسه الصراعات الداخلية التي يواجهها البشر، سواء كانوا من أصحاب المبادئ أو غيرهم.
بقي أن أقول: إن فيلم "أسرار رسمية" لم يذكر كلمة "الأخلاق" في أي حوار أثناء الأحداث، ومع ذلك فقد كانت الأخلاق حاضرة في كل التفاصيل، وفي اعتقادي أن الرسالة التي أراد الفيلم إيصالها، ليس تسجيل حدث تاريخي لموظفة استخبارات تجاوزت كل الخطوط الحمراء، بل تحديد مفهوم وتبعات "الشجاعة الأخلاقية" التي يملكها بعض البشر وتغير مجرى التاريخ. من دون شك أن "الشجاعة الأخلاقية" التي أبدتها بطلة القصة كانت غير عادية قدمت دروساً صعبة لكثير من الناس.




http://www.alriyadh.com/1918263]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]