المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خبايا الأعمال



المراسل الإخباري
12-09-2021, 23:07
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
«يُشرعُ أن تكون للإنسان خبايا أعمال بينه وبين ربه لا يعلم بها الناس كذلك يُشرعُ أن لا تتسلّط النفس على تلك الخبيئة بتضخيمها والإعجاب والاعتداد بها والاغترار بها، فخبايا الأعمال قصاراها أن تكون من قبيل أرجى أعمال العبد عنده..»
تختلف ظروف الناس على ممرِّ العصور، وتبعاً لذلك الاختلاف يبرز للخلف من التحديات ما لم يواجهه السلف، وبالعكس فالظروف قد تكون لصالح الخلف فيتذلّلُ له من العقبات ما كان صعب المرتقى بالنسبة إلى الـمُتقدم، ولا تقتصر التحديات على انغلاق الباب المطلوب انفتاحه فقط، بل قد يُفتحُ للإنسان باب وسائل نافعة، فيكون ترشيد تلك الوسيلة والاقتصار على القدر المناسب من استخدامها تحدياً ينجح فيه من هداه الله إلى ذلك، ويُخفقُ فيه من لم يُوفّق، وقد فتح الله تعالى في هذا العصر الكثير من الوسائل التي أصبح ترشيدها تحدياً واضحاً؛ لأن استخدامها المنفلت غير المنضبط من شأنه أن يقضي على الأنماط المثالية، ومن الأمثلة المهمة على ذلك تأثير استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على نمطٍ مثاليٍّ شرعاً وعرفاً ألا وهو الاحتفاظ بخبيئة العمل، ولي مع ذلك وقفات:
أولاً: أهمية سرية العمل الصالح؛ لأن سعي العبد في طاعة مولاه أمرٌ بينه وبين ربه لا وجه للفت أنظار الناس إليه، اللهم إلا أن يكون العمل مما أُمر الإنسان بإظهاره كصلاة الجماعة مثلاً، وإخفاء العمل من أهمِّ ما يتفادى به الإنسان الرياء، ومن أجدى ما يُدفعُ به في نحر النفس الأمارة بالسوء التي لا تألو في السعي وراء ما يجلب السمعة، فمن أخلص النية لله تعالى، وأخفى عمله عن الناس، وسكت عن التحدث به فقد اجتاز اختبارات مهمة، لا سيما إذا تغلّب على شهية نشر العمل عبر وسائل التواصل الحديثة، ولم يجعلها مرآة تعكس ما يقوم به من الأعمال الحسنة، على أن نشر بعض أعمال البرِّ في بعض الحالات وبضوابط معينة لا إشكال فيه إذا كان النشر من قبيل ما يؤدي إلى أن يُقتدى به، كما هو الحكمة في الثناء على إبداء صدقة الفرض في قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ)، وما كان لأحدٍ أن يحكم على فلانٍ بأنه نشر مَبَرَّته رياءً، فهذا دخولٌ في النيات لا يسوغ البتة، لكن يجب على الناشر أن يتفقد نيته ويُهذِّب دوافعه، فإن تمحض فعله للمصلحة فالمصلحة الراجحة مأخوذ بها، وإن وجد في نفسه شائبةَ مراعاةِ الناس أو خاف العُجْبَ فليُمْسك، فالسلامة أولى.
ثانياً: كما يُشرعُ أن تكون للإنسان خبايا أعمال بينه وبين ربه لا يعلم بها الناس كذلك يُشرعُ أن لا تتسلّط النفس على تلك الخبيئة بتضخيمها والإعجاب والاعتداد بها والاغترار بها، فخبايا الأعمال قصاراها أن تكون من قبيل أرجى أعمال العبد عنده؛ وبمثل هذا عبّر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لِبِلاَلٍ رضي الله تعالى عنه: «يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ» قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ" متفق عليه، وبلال رضي الله عنه لا يجزم بأن هذا العمل هو الذي نال به ذلك، بل ذكر أنه أرجى أعماله، بل إن صاحب الخبايا قد يكون غير مستحضر لها في ذهنه ابتعاداً عن الغرور، ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن رجلاً من أهل الجنة يطلع عليهم الآن، فطلع عليهم أحدهم ثلاث مرات طلب منه عبدالله بن عمرو بن العاص أن يأوي إليه ليرى عمله فيقتدي به، فراقبه ولم ير عنده كبير عملٍ فقال له: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: «يَطْلُعُ الْآنَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، فَطَلَعْتَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لَأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَبِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ قَالَ: فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ)، أخرجه أحمد وغيره، فهذا الرجل لم يستحضر عمله العظيم لما سُئل عنه، ولم يذكره إلا بعد أن ولّى عنه السائل.
ثالثاً: ستر العمل الصالح دأب كرام الناس؛ لما في ذلك من مراغمة النفس وتزكية العمل، وقد كان بعض السلف يقوم على مؤن وأرزاق مساكين يتعهدهم، لكن يُخفي ذلك بحيث لا يعرف المستفيد هوية المحسن، فلا يعرفه إلا بعد أن يتزامن انقطاع الصلة عنه مع وفاة بعض الفضلاء فيُدركُ أنه القائم عليه.




http://www.alriyadh.com/1922935]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]