المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وهل يغيب المفكر؟



المراسل الإخباري
12-11-2021, 20:45
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
هل يمكن أن يغيب المفكر؟ هذا السؤال الذي بدأت به هذه السطور، هو أول ما تبادر إلى ذهني عندما بعثتْ لي "أم موسى" تنعى فيها الصديق والأخ ورفيق الدرب، قلت في نفسي إن فقد رجل بقامة مفكر يعني غياباً للفكرة السهلة العميقة، وهو غياب لحوار مولد للأفكار وخالق لمجالات غير مطروقة في مجالات النقد المعماري..
تقف أحياناً مندهشاً ومصدوماً لأنك مررت بأحداث سريعة لم تمهلك كي تلتقط أنفاسك وتفكر وتسأل، تقتحم حياتك بسرعة وقوة ولا تجعلك تفكر في خطواتك القادمة، هذا ما حدث عندما رحل الصديق العزيز الدكتور وليد السيد عن الحياة يوم الثلاثاء الفائت في مستشفى "سانت توماس" في لندن بعد معاناة طويلة مع المرض. رغم أنني كنت قلقاً من هذه النتيجة منذ أن عرفت بمرضه في منتصف شهر مارس الفائت، إلا أنني كنت أمني النفس بأن يمن الله عليه بالشفاء، رغم صعوبة المرض وخطورته. خلال الشهور الفائتة كنت أتواصل مع "أبو موسى" كل يوم تقريباً، وأحياناً أكثر من مرة، وكنا نتحدث لفترات طويلة، ومع ذلك كنت متخوفاً أن أصحى يوماً وأفقد هذا الحوار الذي جمعنا لسنوات. الدكتور وليد، لم يكن صديقاً عادياً أو عابراً، إنه أحد المفكرين والنقاد في مجال العمارة في الحضارة الإسلامية، جمعتنا الفكرة منذ عقدين من الزمن ولم نختلف أبداً إلا في بعض الآراء والمفاهيم والأفكار، وكان هذا الخلاف الممتع رابطاً إنسانياً وعقلياً جمعنا ولم يفرقنا.
هذه السطور ليست تأبيناً ولا رثاءً لرجل أمضى حياته مخلصاً لأفكاره وأهدافه العلمية، بل محاولة لرد بعض الجميل لمفكر رحل وترك الكثير وراءه، سواء لتلامذته الذي كان متفانياً في دعمهم والوقوف بجانبهم، أو زملائه الذين جايلوه في مشواره النقدي. هذا الإرث النقدي الفكري المعماري يشكل رصيداً مهماً ونادراً في الحوار النقدي المعماري باللغة العربية. كما ذكرت لن أقوم برثاء "أبي موسى" بقدر ما سأسرد بعض الحكايات التي جمعتنا والأهداف الكبيرة التي فكرنا فيها معاً، تحقق بعضها وتوقف بعضها الآخر، لكنها كانت أهدافاً أكبر من الواقع الذي كنا نعيشه. ولعلي أتحدث عن ذلك التوقد الذي وجدته عند وليد عندما ألتقينا لأول مرة في لندن، فقد كان مهموماً بفكرة خلق بيئة فكرية نقدية عربية في مجال العمارة، فعالمنا العربي فقير معماريا على المستوى المهني والفكري، وكنت مهتماً بهذه الفكرة بشكل كبير.
في سبتمبر عام 2008م، كانت الفكرة قد تطورت كثيراً بعد حوارات ولقاءات كثيرة، وفي أحد مقاهي "إدجوار رود" في لندن قال "وليد" لنؤسس مؤسسة تحول هذه الفكرة إلى عمل حقيقي فقلت له لنبدأ بما يمكن أن نسميه "هيئة لنقاد العمارة العربية" نجمع فيها المهتمين داخل وخارج العالم العربي، وفعلاً بدأت الفكرة لكننا أسسنا في نفس الوقت مركزاً غير ربحي باسم "لونارد" (مركز لندن لأبحاث العمارة والفن والتصميم) وكان وليد قد بدأ هذا المركز بشكل غير رسمي في وقت سابق، وقمنا بإصدار مجلة محكمة بنفس اسم المركز تتحدث العربية والإنجليزية، وقد صدر منها 17 عدداً. ورغم الصعوبات التي يمكن أن يواجهها أي مشروع فكري مثل هذا، إلا أن الفكرة ظلت حية في وجدان السيد حتى رحل عن هذه الدنيا.
المفاضلة كانت بين العمل المهني التجاري الذي أنساق له أغلب من تقاطع معهم الدكتور السيد وبين العمل المهني الفكري الرصين الذي يحتاج تضحيات كبيرة وقضاء أوقات طويلة في البحث والتنقيب في مجال غير مخدوم من الناحية البحثية، وأقصد هنا النقد المعماري والدراسات الفكرية المرتبطة به، وكان لزاماً أن تؤثر هذه التضحيات على مستوى الحياة المادية التي عاشها أبو موسى، فقد كان بسيطاً ومتواضعاً، يكتفي من الحياة المادية بالقليل لكنه لم يقبل من الفكر القليل، بل كان منفتحاً على المسائل الصعبة مثل الاستشراق في العمارة الإسلامية وقضايا الهوية المتشابكة، وكان لا يتوقف عند ملامسة هذه الجدليات من الخارج بل كان يغوص عميقاً في سبر أغوارها وتفكيكها.
خلال العقد الأخير جمعتنا لقاءات مهمة تمثلت في مؤتمر عجمان للتخطيط العمراني الذي كان صديقنا المشترك البروفيسور صباح مشتت مهندسا له، وكان هذا المؤتمر فرصة عظيمة لصقل كثير من الأفكار التي شكلت منعطفات مهمة في خلق شبه مدرسة نقدية معمارية عربية لا تقبل بالتقليد والتكرار وتبحث عن "التجديد" الذي يبدو أنه غائب عن مدارس العمارة العربية بشكل كامل. كما أن ملتقيات التراث العمراني التي نظمتها هيئة السياحة والتراث الوطني في المملكة بين عامي 2011 و2015م كان للسيد حضور ملهم ومؤثر من تمثلت في المراجعات الاستدراكية لكثير من الحوارات التي كنا نجريها عن بعد.
هل يمكن أن يغيب المفكر؟ هذا السؤال الذي بدأت به هذه السطور، هو أول ما تبادر إلى ذهني عندما بعثتْ لي "أم موسى" تنعى فيها الصديق والأخ ورفيق الدرب، قلت في نفسي إن فقد رجل بقامة مفكر يعني غياباً للفكرة السهلة العميقة، وهو غياب لحوار مولد للأفكار وخالق لمجالات غير مطروقة في مجالات النقد المعماري. الخسارة الكبيرة التي سيشعر بها محبو ومريدو "وليد" ستكون عظيمة عندما يتلمسون النور الذي كان يستضيئون به ويقدمه لهم بكل حماس ولا يجدونه، سيفتقدون ذلك الهدوء والعمق الذي كان يميز كلماته...إلى رحمة الله أبا موسى..




http://www.alriyadh.com/1923321]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]