تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رونقة الباطن



المراسل الإخباري
12-12-2021, 13:14
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
إن ما قد يفعله الإنسان ويرسمه على صفحات الأرض أمر لا تحيط به الكتابات، فجمال باطن الإنسان قد يقلب الصحراء إلى حدائق وغدائر تتراقص عصافيرها على خرير جداولها، كتلك «اللقطات والمقاطع» التي نملأ بها صفحاتنا وهواتفنا من جماليات التصوير، والواقع أجمل وألطف..
وأنا أضع قدمي داخلاً إلى كهفٍ قد زينه صاحبه وجمّله وجعله جذّابًا للزائرين مريحًا للثاويين، طاف في خاطري ما سطره الإمام الذهبي - رحمه الله - في سيرة عطاء ابن أبي رباح - رحمه الله -، حيث لا يعلم بسيرته إلا الخاصة من الناس، ذاك الرجل الذي فشل في مسعاه ليكون من أهل الدنيا، فلم يفلح في عمل! فلم تكن صورته ولا نسبه يؤهلانه لمواكبة أهلها، فقد كان عطاء مولى، أسود أعور أفطس أشل أعرج، ولكن كان هناك شيء لم يتنبه له عطاء بادئة أمره فدلته عليه أمه كما يروى في سيرته، ذلك الشيء هو رونقة وتجميل العقل والباطن، وهو أمر متاح لكل أحد، فسلك سبيله فكان عطاء نجمًا من نجوم الأمة.
ليس أمر تجميل وتزيين ذلك الكهف مقتصرًا عليه، بل هو صورة لما قد يستطيع الإنسان فعله حين ترتسم في داخله صورة جميلة لمكان ما، وقد نمر على الصحاري والقفار والقرى والوديان فيلفت أنظارنا متنزهٌ أو حديقة تشكلت في مخيلة مهندسها وبانيها قبل وقوعها، فكانت كما صورها في ذهنه، تلك الصحراء العريضة التي كانت مضرب مثل للهلكة في الأمثلة والأشعار، كما في قول الشاعر:
وقَفْرٍ كَظَهرِ التُّرْسِ مَحْلٍ مَضِلَّةٍ
مَعَاطِشِ مجرى الماءِ طَامِسَةِ الفَلاَ
إذ بها تتحول لوحة فنية، ومعلماً أثرياً تتجه إليه ركائب الزائرين، وليس ذلك إلا لبقعة صغيرة في طرف من أطرافها قد هُيّأت بالممكن من جمال متناسق مع طبيعتها.
إن ما قد يفعله الإنسان ويرسمه على صفحات الأرض أمر لا تحيط به الكتابات، فجمال باطن الإنسان قد يقلب الصحراء إلى حدائق وغدائر تتراقص عصافيرها على خرير جداولها، كتلك «اللقطات والمقاطع» التي نملأ بها صفحاتنا وهواتفنا من جماليات التصوير، والواقع أجمل وألطف.
غير أن كثيرًا منا قد آثر أن يحبس جمال الحياة في داخله، ويترك أطلالها في نفسه لتمحوها عواصف الكآبة والعبوس، بينما كان بمقدوره أن يتمتع ويمتع الآخرين بما أودع الله من جمال في نفسه، لكن قلّ من يهتدي لرونقة باطنه.
وبنحو سيرة عطاء سار الأدباء بمقامات الحريري سير الركبان في الآفاق، ونالت من الصيت والشهرة في حياته ما جعل العلماء يقصدونه من كل فج لقراءتها عليه، لكننا نجد الحريري يصف شخصه لمن لا ينظر لجمال الباطن ويعمى عن تمييز أهله بعد أن زاره رجل ليأخذ عنه الأدب فاستزرى خلقته، ففطن الحريري لذلك، وطلب الرجل من الحريري أن يملي عليه شيئًا من الأدب فأجابه قائلاً:
مَا أَنْتَ أَوَّلُ سَارٍ غَرَّهُ قَمَرٌ
وَرَائِدٍ أَعْجَبَتْهُ خُضْرَةُ الدِّمَنِ
فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ غَيْرِي إِنَّنِي رَجُلٌ
مِثْلُ المُعَيْدِيِّ فَاسْمَعْ بِي وَلَا تَرَنِي
فاستحى الرجل وانصرف عنه.
ومن هذا الرجل في زمننا الكثير والكثير ممن لا يتعمق في جمال الطبيعة وروعة جبالها ووديانها وصحاريها، ولكنه مولع بأشياء قد لا يجد خلف كواليسها إلا السراب.
وبالمقابل نجد الكثير والكثير ممن تجشم تحسين مظهره وتنميق صورته، وقد زان نفسه بكل محسنات «الفوتوشوب» إلا إنه إن تكلم أو كتب تبين خلف تلك الصورة المزيفة دياجير من الإساءات والعبوس وضيق المنطق! إذ لم يهتم بنفسيته وباطنه وتركها بغير سائس من الآداب والأخلاق فجمحت بغير لجام تفسد بينه وبين من يقابله من الخلائق، بل وتعكس وتقلب له حقائق ما يرى، فيرى الشين زينًا والزين شينًا، وهو ما أكد علينا التنزيل الحكيم في تجنبه والاجتهاد في البعد عنه، وأسعد أسماعنا بالمرتبة المنيفة والمآل المرتضى الذي يتبوؤه عظيم الحظ من سعيه في إصلاح باطنه ورونقة سريرته فقال: رَبُّكُم أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُم إِنْ تَكُونُوا صَالحِينَ فَإِنَّه كَان لِلأَوّابِينَ غَفُورا - هذا، والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1923442]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]