المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شعرية النظم في (مُلحة الإعراب)



المراسل الإخباري
02-19-2022, 23:43
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png يُلحظ في المتون العلمية دائماً خلوها من الجماليات التي تدعو إلى التخييل، والإطراب، وذلك معلوم ومعروف، ومتكرر ومألوف؛ إذ قليلاً ما نجد متناً علمياً يجنح للغنائية الأدبية، أو يطرق باب الإبداع الفني القائم على جمال الوصف، وروعته، وبراعته، وسبب ذلك راجع إلى أن المتن العلمي ينشد الوضوح، ويسعى إلى التعليم، ويحاول تيسير النظم وتبسيطه؛ ليكون أدعى للحفظ والقبول، والفهم والتطبيق، ومن هنا لم يعتنِ النظّامون كثيراً بعذوبة متونهم، بل لمسنا في معظمها الوضوح، والمباشرة، وعدم اللجوء إلى الزخرفة، والتزيين إلا نادراً جداً؛ ولذلك وُصِفت أكثر تلك المتون بالنظم، وبالشعر التمثيلي إخراجاً لها من دائرة الشعر الوجداني.
ومن الطريف أن تجد متناً علمياً في النحو مثلاً يتسم بجمالية الألفاظ، ورونق المعاني، وسلاسة الصور الفنية، وانتقاء المفردات الرشيقة، ولعل من قبيل ذلك ما لمسناه من أثر شبه تخييلي في المتن النحوي المعروف بــ (مُلحة الإعراب) التي نظمها أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري (ت 516هـ)، حيث تميزت مُلحته بتلك الأوصاف فجاءت مغايرة في عذوبتها للمنظومات النحوية المعروفة كألفية ابن مالك على سبيل المثال، وغيرها، والذي يظهر لي أن الحريري في (مُلحته) كان متأثراً بأسلوب (مقاماته)، وأيّاً يكن منهما متقدماً على الآخر فالذي يتأمل منظومته، ومقاماته سيرى قاسماً مشتركاً بينهما، هو قاسم الجمال، والعذوبة، والأثر والتأثير.
وتعد هذه المنظومة فريدة في أسلوبها، بهيّة في ثوبها، إذ يستهلها بقوله: «أقولُ من بعد افتتاح القول / بحمد ذي الطول شديد الحول»، ولك أن تنعم النظر في هذا البيت حيث ينضح بأدبية عالية، وشعرية واضحة؛ إذ يُلحظ فيه التجانس بين (أقول – القول)، و(الطول – الحول)، كما يُدرك فيه التناص مع الآية القرآنية، وهي قوله تعالى: «غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ»، وحين أراد الدخول إلى ضخ قواعد النحو استهلها بأهمية التعريف، والتقسيم، فقال: «يا سائلي عن الكلام المنتَظِم / حدّاً ونوعاً وإلى كم ينقسم؟».
وتتميز منظومة الحريري بالأمثلة المغايرة، والشواهد المختلفة عما هو مألوف في المتون النحوية الأخرى التي تركّز على (زيد، وعمرو)، و(قام، وضرب)، ودليل ذلك قوله مثلاً: «أو لحقته تاء من يُحدِّثُ / كقولهم في ليس لستُ أَنفُثُ»، ويقول في بيت آخر: «أو كان أمراً ذا اشتقاقٍ نحو قُل / ومثله ادخل وانبسط واشرب وكُل»، ويقول في بيت آخر: «والأمر مبني على السكونِ / مثاله احذر صفقة المغبونِ»، ويقول في بيت آخر: «والأمر مِن خَاف خَفِ العقابا / ومِن أجادَ أَجِدِ الجوابا»، ويقول بعده: «وإن يكن أمرك للمؤنثِ / فقل لها: خافي رجالَ العَبَثِ»، وهكذا يسير في معظم منظومته على هذا النمط من الأمثلة التي تخفق برونقٍ وبهاء، يختلفان كثيراً عما كان يردّده النحاة قبله وبعده.
لقد فتح الحريري المنظومات على أدبية ينبغي التنبه لها، ولا سيما من قبل دارسي الأدب ونقاده الذين لا يكترثون كثيراً بالشعر التعليمي سوى بالإشارة إلى أنه نوع آخر، أو قسيم ثانٍ للشعر ذي الطابع العاطفي الذي لم نعد نره كثيراً عند النظّام، إلا ما كان عند الحريري في مُلحته.




http://www.alriyadh.com/1935822]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]