المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رسائل إلى أديب شاب (3)



المراسل الإخباري
05-19-2022, 03:43
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png تستفهم عمَّا ذكرتُهُ لكَ في الحلقة السابقة ("الرياض"-الخميس الماضي) أَن "ميزتكَ هي في الاستباق لا في اللحاق"، وتتساءَل عن كيفية الاستباق طالما كلُّ شيْءٍ موجودٌ مُسْبَقًا وكلُّ شيْءٍ قيل.
هذا صحيح. لكنه لا يعني أَن نستسلم للاتِّباع ونُكملَ تَواصُلَه ببَّغاويًّا على ما هو مثلَما هو، من دون إِضافات إِبداعية. عظمةُ الشعر العربي أَنه رائعٌ منذ مطالعه السحيقة، وكذلك النثر العربي الفخيم. لكننا -منذ تلك المـَطالع- نشْهدُ، حقبةً بعد حقبة وعصرًا بعد عصر، أُدباء مجدِّدين وشعراء مبدعين يولَدون من التقليد ويُشْرقون بالتجديد. وكما ردَّدتُ لكَ مرارًا في هذه الزاوية من "الرياض": التجديد ليس "ماذا" تكتب بل "كيف" تكتب. الأُسلوب هو الذي يُمايزُك ويُغايرُك، حتى لو كان المضمون مما قيل أَو سبَق صُدُوره في الذاكرة العربية نثرًا وشعرًا. فالأَدب ثمرةٌ متجدِّدة دومًا ولو من النُسغ الواحد. والتَمْر الذي يُثْمره النخْل هذا الموسم، طالع من النخلة ذاتها لكنه جديد في موسمه. هكذا الأَدب: تخالُه عتيقًا من موسم سابق لكنَّ فضلكَ أَن تتناوله طازجًا جديدًا في الموسم الحالي.
سوى أَن هذا لن يتمّ لكَ إِن لم تكُن على علاقة نبيلة مع اللغة. ولُغتُنا العربية، بجلالها وجمالها، غنيةٌ شكلًا ومضمونًا، طيِّعةٌ شكلًا ومضمونًا، معطاءةٌ شكلًا ومضمونًا، وهي تُعطاكَ بسخاء إِن تعاملْتَ معها بهَيبةٍ واحترام، بنقاء وطهارة، فلا تؤْذيها بمصطَلَح مستَورَد أَو باشتقاق هجين. من هنا القول إِن الشعراء يجرُؤُون على استيلاد اللغة مفردات أَو أَلفاظًا أَو مصطلحات أَو اشتقاقات جديدة من قلب اللغة لا من خارجها، لأَن الخروج على قلبها عمل طافر لا يدوم بل يذبل كما تذبل الأَعشاب الطُفَيْلية على هامش النباتات الأَصيلة.
والمعيار؟ الجمال. وما إِلَّا الجمال: وحده الذي ينقِذ من الوُقُوع في الجرأَة المتهوِّرة. تتوسَّلُه نثرًا فيَعذُبُ نثرُك، وتتوسَّلُه شعرًا فتعذَوْذِب قصيدتُك. والجمال، بطبيعته، متطلِّب. لذا يجدُر بك الاطِّلاب أَوَّلًا من ذاتك - فالتطَلُّب فضيلة - قبل أَن تَدخُل حرَم اللغة بكل انتقائية دقيقة، كي تنصاعَ لكَ اللغة فتُسلِسَ لكَ استخدامَ مفرداتها القاموسية تاركةً لكَ مساحةَ حرية في كيفية استخدامها بدون أَذيَّتِها.
بعد هذا، لا يعود يهُمُّ الشكل طالما تتعامل مع المضمون باحترام، سواء كان نصُّكَ شعرًا كلاسيكيًّا موزونًا أَو شعرًا نيوكلاسيكيًّا قائمًا على التفعيلة، أَو ما يسمَّى "الشعر الحر" المتفلِّت من كل وزن وكل تفعيلة، وهو ما يسميه البعض "نثرًا شعريًّا" أَو "شعرًا منثورًا" أَو "شعرًا حديثًا". لا تتعصَّب عُميانيًّا للتسمية فليُسمُّوه ما يرغبون كما يرغبون كيفما يرغبون ومتى يرغبون. الأَساس هو ما يقدِّمه النص من جواهر تهُمُّ القارئ وتُشْرق له جديدًا.
اللمعة الجديدة الجميلة تبقى على جمالها، شعرًا عانقَها النص أَو نثرًا. المهمّ تطويع المفردات لِما يخدم النص دون أَن يخون اللغة ونُظُمَها وقواعدَها وهَيبتَها. وفي طليعة ما يولّد هذه "اللمعة" إِجمالًا: الإِيجاز الذي يثير "الـمُباغتة" الجميلة. فمن أَبرز معادلات الفن: "الأَقلُّ هو الأَكثر فالأَجمل". ما تقوله في خمس كلمات أَو عشْر، لا تسترسلْ له في عشرين أَو أَكثر، لأَن الاسترسال الرَخْو يثير غبارًا في العبارة وتاليًا في كامل النص.
ولهذا التَوجُّه نسَق ثابت يؤَمِّن متانة النص، وبها ديمومةَ هذا النص على الزمن.
كيف؟ اِنتظرْني في الحلقة التالية: الخميس المقبل.




http://www.alriyadh.com/1951558]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]