تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الترشيد



المراسل الإخباري
06-30-2022, 05:21
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
كثيراً ما يغيب الترشيد في أمور قصد بها الإحسان، ولا نزاع في حسن الإنفاق فيها إذا لم يتجاوز ذلك حد الاعتدال، فيكون غياب الرشد فيها راجعاً إلى المبالغة في الشكليات التي لا تشكل المبالغة فيها فرقاً، وأكثر ما يكون ذلك في بعض المبالغات المتجاوزة للتوسط أثناء الحفاوة بالنجاحات..
المال عصب الحياة، وبه تواجه نوائب الزمان، وقد جُبلت النفوس على حبه وصونه، وهذا الصون قد تغلو فيه بعض النفوس إلى حد الإفراط فيصير شحّاً مذموماً، ومن شأن من حاله هكذا أن يظن أن في إيكائه لوعائه مجلبةً للسعادة، وما درى أنه يضيق على نفسه ماديّاً ومعنويّاً بشكل يتنافى مع السعادة الحقيقية، وقد تتخلى نفوس أخرى عن صيانته حتى يصل ذلك إلى درجة التفريط، فيكون تبذيراً مذموماً، وما يدري المبذر أنه يخسر ماله ولا يكسب حمداً ولا أجراً، وبين طرفي الغلو المذمومين مسلك المعتدلين أهل التوسط في كل الأمور، وهم أسعد الناس باتباع المنهج الأقوم في أمورهم، فهم يبذلون أموالهم فيما يعود عليهم بالنفع في معاشهم ومعادهم، ولو وصل الأمر بأحدهم إلى كثرة البذل لم يخرج إلى حد التفريط في الصيانة؛ لأنه يضع ما يبذله في مواضعه اللائقة به، ومن بذل فيما ينبغي البذل فيه لم يكن مهدراً لماله؛ لكسبه إحدى الحسنيين، ولي مع الترشيد وقفات:
الأولى: أن ترشيد البذل منهج شرعي أرشدنا الله تعالى إليه، فبعد أن أمر عباده بإيتاء ذي القربى حقه والمسكين وابن السبيل زجرهم عن التبذير زجراً بليغاً من شأنه أن يردع عنه؛ إذ قال: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) وكفى بهذه الأخوة المقيتة منفِّراً عن التبذير، ثم نهى الله تعالى عن كل من طرفي الغلو في هذا الباب فقال: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)، ومن اجتنب الطرفين سلك مسلكاً معتدلاً وسطيّاً؛ فإن المال هو قوام معاش الناس كما قال تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)، قال بعض المفسرين: "معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال، فلما كان المال سبباً للقيام والاستقلال سماه بالقيام" وإذا كان المال قياماً واستقلالاً فتبديده فيما لا ينبغي من باب التسبب في الزمانة المقعدة عن السعي في المصالح، وقصارى من صنع ذلك أن يحتاج إلى ناس آخرين لا فرق بينه وبينهم إلا أنهم أصلحوا أموالهم وأفسد هو، والحاجة إلى الناس آخر ما ينبغي التعويل عليها، وقد قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (لَأَنْ أُخَلِّفَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إِلَى النَّاسِ).
الثانية: الكرم ذلكم الوصف النبيل الذي لا يختلف عاقلان في فضله ونبله، حتى إن غير الكريم يستاء من أن تنفي عنه الكرم، ويؤلمه أن تثبت له اللؤم، ومن المتقرر أنه لا ينافي الكرمُ حسنَ التصرف فكلامهما محمدة مرغوب فيها، ولا تضادَّ بينهما، بل التضاد بين كل منهما وضد صاحبه، فالشح مضاد لحسن التصرف؛ إذ الشحيح أساء معاملة نفسه حيث جعل يده مغلولة إلى عنقه، فصار مملوكاً لماله بدل أن يكون هو المالك، وشقيّاً به بدل أن يسعد به، كما أساء التصرف مع أهل الحقوق العامة والخاصة الذين حرمهم من حقوقهم فيما رزقه الله تعالى، فما أبعده عن حسن التصرف، كما أن بين التبذير والكرم مضادةً فالمبذر يقصم ظهر نفسه بإتلاف أمواله فما أبعده من الكريم الذي يقيم غيره ويشد أزر المحتاجين، فلا يصح أن تتخيل نقطة الالتقاء بين الكرم والتبذير بدعوى كون كل من الكريم والمبذر يخرج المال من يده؛ لوجود فارق جوهري بين هذا وذاك، فمن رزقه الله المال وسلطه عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ فأنفق في المصالح وسدَّ الخلات وأكسب المعدوم فكريم مغبوط، ومن أغري بماله فذراه في الريح غير متحرٍّ ما يصرفه فيه فمبذر يوشك أن يكون محل شفقة.
الثالثة: كثيراً ما يغيب الترشيد في أمور قصد بها الإحسان، ولا نزاع في حسن الإنفاق فيها إذا لم يتجاوز ذلك حد الاعتدال، فيكون غياب الرشد فيها راجعاً إلى المبالغة في الشكليات التي لا تشكل المبالغة فيها فرقاً، وأكثر ما يكون ذلك في بعض المبالغات المتجاوزة للتوسط أثناء الحفاوة بالنجاحات، فقد تصرف الأسرة على نجاح دراسة، أو زواج، أو قدوم مولود ما يكفي للاحتفال المتوسط، ولمنح الفرد المحتفى به مُتَمَوَّلاً ينتفع به في قابل أيامه، فالتصرف الحسن الجمع بين المظاهر الآنية الفائدة التي لا تتجاوز ساعات، وبين وسائل أخرى يجدي البذل فيها نفعاً راجحاً في الحال أو في المستقبل أو في كليهما؛ لكونها مما يبقى وينتفع به، ومعلوم أن ما يبقى الانتفاع به هو الأولى بأن تمتد به يد أهل الإحسان وهو الأصل في باب البر والصلة، والبذل فيه استثمار وحسن تصرف، وعدم الالتفات إليه بالمرة غياب للترشيد.




http://www.alriyadh.com/1959283]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]